بات من شبه الواضح وحتى قبل انتظار الأبحاث القضائية والعدلية ان ما جرى بداية هذا الاسبوع من حرائق وتخريب يخفي أبعادا خطيرة في التجاذب السياسي وعلى صلة عميقة بالانتخابات القادمة والصراع على السلطة بعد الفراغ الذي تركه انهيار النظام السابق يوم 14جانفي 2011. وعلى الرغم من ان البلاد قطعت شوطا هاما في طريق الانتقال الديمقراطي بمناسبة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي فان حالة من الاستقطاب والنزاع قد لازمت المشهد السياسي ولم تنفك عن احداث الضجيج تلو الضجيج في الحراك السياسي في البلاد على خلفية تنازع الحضور وكسب نقاط على الخصوم في ما بات يشبه الحملة الانتخابية والدعائية السابقة لأوانها .
بين سلطة ما تزال تساير الأوضاع وتحسب اكثر من حساب لعناوين مرحلة الحكم الدلئم وبين معارضة مهزومة ومشتتة خلفت لها الانتخابات الاخيرة الكثير من الجراح ,بين ترويكا ترغب في إنجاح تجربتها الجديدة في الحكم وإدارة شؤون البلاد وبين معارضة متأهبة لفعل كل شيء من اجل التشكيك في السلطة القائمة فهي مؤقتة وعاجزة وغير قادرة على تنفيذ الوعود وتحقيق اهداف الثورة وتطلعات الناس ومختلف الفئات وهي مدعوة الى الاستقالة والانسحاب, بين برنامجين للفعل السياسي تتحرك خيوط لعبة انتخابية شعارها الابرز الدفع الى الاحتجاجات وقطع الطرق وتعطيل آلة الانتاج وضرب اسس الاستقرار ووقودها الابرز حرية الابداع والمقدسات والدين وحتى «لقمة عيش الناس» وأمنهم وممتلكاتهم العامة والخاصة.
أكدت سياقات الاحداث وخاصة تزامن الحرائق ومظاهر توتير الأوضاع الاجتماعية وصعودها المفاجئ من فترة الى اخرى ان الخصمين اي السلطة والمعارضة قد أباحا لنفسيهما فعل كل شيء في سبيل كسب النقاط وضمان الدخول الى السباق الانتخابي القادم بأوفر الحظوظ واكثرها.
السلطة الحاكمة تمتلك المفاتيح الأهم في الحراك السياسي الجاري حاليا بحكم بسط النفوذ على السلطة التأسيسية والسيطرة على اجهزة الدولة ولكن المعارضة لها أيضاً أسلحتها والتي من ابرزها المطلبية الاجتماعية في الشغل والتنمية والقدرة على اختراق الشارع والوسائط الإعلامية المختلفة اضافة الى الإبداع والابتكار الدائم والمتواصل في تصيد أخطاء السلطة الجديدة التي ما تزال تعمل في العديد من الميادين والقطاعات على قاعدة التجريب اي الصواب والخطإ. طلاسم ومفاتيح
وبين هاذين الخطين تتراكم طلاسم اخرى تضيف الى صراع الانتخابات القادمة حدة وقساوة وعنف, لعل من ابرز هذه الطلاسم فلول النظام البائد او معضلة استبعاد التجمعيين ورموز حزب التجمع المنحل والدستوريين من الحياة السياسية وغول السلفية واجواء الفراغات الأمنية ولغز التحركات النقابية من إضرابات واعتصامات البعض منها موصوف بالغموض والضبابية ومنعوت بسوء النية.
منطق تصريحات غالبية الطيف المعارض تؤكد ان اكبر رهانات الفاشلين في انتخابات 23اكتوبر 2011 تقوم على تأكيد فشل السلطة الحالية وابراز عجزها عن التمكن من مفاتيح الدولة والقدرة على ادارة شؤونها وضمان هيبة مؤسساتها بالقدر اللازم والمطلوب الضامن لاستقرار الاوضاع وعودة الحياة الى نسقها المعتاد .
في المقابل فان السلطة وخاصة طرفها الاغلبي اي حركة النهضة وجدت نفسها غصبا في معركة الدولة الجديدة التي تواجه اعصارا من الملفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومن قضايا مكافحة ارث الماضي بما يقتضيه كل ذلك من حذر وعدم تسرع لتجنب الوقوع في الاخطاء الكبرى التي قد تضر بافقها الانتخابي القادم وتعصف باحلام مناضليها وماضيها النضالي والشعبي .
بمنطق قراءة احداث الواقع بصورة مترابطة وعميقة ونزيهة أيضاً فلا شيء يدور اليوم خارج سياق الحملات الدعائية والانتخابية ,قد تكون أحزاب الترويكا اكثر أريحية في هذا السابق فحتى برامج التنمية التي شرع بعد في تنفيذها في اطار ميزانية الدولة للسنة الحالية هي هبة إضافية لمزيد الاقتراب من الناس والتعريف بالبرامج والشخوص ففي النهاية أوضاع ميزانية الدولة ليست خاوية ولا بد من ان أشياء كثيرة ستتحرك على الارض وكل الجهات وكل الفئات تنتظر ذلك.
والمعارضة ما تزال في ضعفها وتشتتها وعجزها الهيكلي والتنظيمي وغياب البرامج الواضحة الى درجة انه يبدو لا من مخرج لها غير تصيد العثرات وركوب الاحداث من مثل الارتماء الأعرج في سياق التنظير لتأجيج صراع العروش او نصرة معرض صور مشبوه فيه قدر من الاستفزاز والمس بمقدسات الناس او التعويل الأعمى على عدم انسجام ووحدة الجهاز الامني.
سباق زمني ومشاركة
في لحظة ما من مسار الحياة السياسية الجديدة قد تكون المعارضة أيقنت من ان ترويكا الحكم غدت تسبقها على الميدان ولم يكن من باب المصادفة ان تشتعل نيران الإشاعات اولا ثم نيران الحرائق ثانيا مباشرة بعد ان شرعت الوفود الحكومية والوزارية في تنظيم سلسلة من الزيارات الى الجهات واستعراض برامج ومشاريع التنمية للفترة القادمة في ظل ما يشبه القطيعة بينها اي بين المعارضة والسلطة الحاكمة, بمعنى ان المعارضة لن تكون شريكة للأحزاب الحكم في ما قد تشده الساحة الاجتماعية والاقتصادية من تحسن وتطور ومكاسب تنموية.
وبنفس القياس قد تكون الحكومة أيقنت من انه لا سبيل لها غير المضي قدما في تحمل أعباء الحكم وإدارة البلاد بعد ان رفضت أطياف عديدة من الاحزاب المهزومة في الانتخابات الماضية قبول عرض الدخول في التركيبة الحكومية الجديدة وبعد ان تمسك ابرز قيادييها الحاليين وهم السادة الباجي قائد السبسي وأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي بمبدإ المشاركة في الحكم .
متابعو الشان السياسي يؤكدون ان الفعل المعارض في تونس لازم قدرا كبيرا من إضاعة الفرص وفقدان ورقات مهمة في الصراع على السلطة عبر سلبيته المبالغ فيها وربما حالة التكبر والغرور الناجمة عن قراءات خاطئة لمعطيات ما حصل في تونس ومراهنته الخاسرة على القدرة على الفعل داخل الدولة ووسط أجهزتها من خارجها ,إذ أكدت الاحداث والتطورات تماسك اجهزة الدولة وصلابة ترويكا الحكم وانسجام بين الجهازين الأمني والعسكري والتفاف شعبي واسع حول الشرعية الانتخابية ومدنية الدولة, ومن الغباء ان تعيد نفس المعارضة شعار المؤسسة العسكرية كحل لما تعتبره أزمة خانقة في البلاد وهي المؤسسة التي رفضت مسك السلطة لما كانت أمامها وبين يديها منذ 14 جانفي 2011ولأكثر من مرة ,وحتى الرهان حول التمترس خلف المنظمة الشغيلة بات أمرا مفرغا من اي جدوى مثلما أكدت ذلك مسيرة يوم 1ماي الاخير عندما اجتاح طوفان السلطة أكذوبة النقابات الخاضعة لأوامر المعارضة.
وحتى رهان الشارع بات اليوم اكثر انكشافا وخديعة بغلبة عنصر المفاجئة والاندساس والتوظيف وطغيان نظرية المؤامرة والتخريب . فهل اختار طرفا الصراع في النهاية هذا الشارع بما فيه محاذير ومخاطر على وحدة التونسيين وعلى الانسجام الاجتماعي لإدارة فصول مهمة من معركتهم الدعائية للانتخابات القادمة وهناك في هذا الصدد العديد من المحفزات اهمها السلفيون والمقدسات والعصابات الإجرامية والمنحرفون والشباب العاطل عن العمل وهناك أيضاً التجمعيون والدستوريون .
ومن الغريب انه في الوقت الذي بات فيه الاتفاق حاصل على موعد الانتخابات القادمة بين طرفي النزاع على السلطة حدثت القطيعة بينهما وغاب الحوار واشتعلت اكثر من نار في اكثر من مكان وكأن حرب الانتخابات وصراع المواقع قد انطلق.