ينسى التونسيون أحيانا أنهّم حكموا الضفّة الأخرى من المتوسط عندما نجح قاضي القضاة أسد بن الفرات في بسط سيطرة الجيش الأغلبي على جزيرة صقلية بعد سنوات من الكر والفر والمعاهدات التي كانت لا تعمّر طويلا بين حكّام القيروان الأغالبة والبلاط الصقلي. وتمثّل إمارة صقلية التي حكمها التونسيون والمصريون طيلة 270 عاما حلقة أخرى من حلقات الإشعاع العلمي والثقافي والمعماري العربي الإسلامي عندما كان العرب مولعون بالعلم والمعرفة قبل أن يصابوا بغيبوبة تاريخية مازالوا لم يستفيقوا منها ولن يستفيقوا ربّما منذ سقوط بغداد بين يدي المغول الذين ألقوا بأعظم وأجمل كتب بغداد في مياه الفرات وهو المشهد نفسه الذي تكرّر عندما داست خيول الأسبان كتب الجامع الأعظم في حاضرة تونس.
في شهر رمضان المبارك وفي ثلاثين حلقة ستقدّم «الشروق» لقرائها تاريخ صقلية العربي الإسلامي بكل ما فيه من حروب ودسائس ومؤامرات وإشعاع علمي ومعرفي، إنّها قصة أخرى من تراجيديا التاريخ سنقرأها معا كما قرأنا سابقا ابن خلدون وتاريخ الأندلس .
وتعد صقلية من أهم جزر المتوسط نظرا لموقعها الاستراتيجي وقد مرّت بها حضارات متعاقبة من أبرزها اليانونية والرومانية والعربية الإسلامية وقال عنها ابن جبير في رحلته الى المشرق والمغرب زمن الحروب الصليبية «طول هذه الجزيرة صقلية، مسيرة سبعة أياّم، وعرضها مسيرة خمسة أيّام. وبها جبل البركان المشهور ذكره في الدنيا، وهو يأتزر بالسحب لإفراط سموه ،ويتعمم بالثلج شتاء وصيفا دائما. وخصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف، وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة، وكثرة الخصب والرفاهة، مشحونة بالأرزاق على اختلافها، مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها».
وقد برع العرب في التخطيط لشبكات الماء والتنوير وفي المعمار وعرفت الجزيرة في الحكم العربي الإسلامي تطورا لافتا وقد استمر الحضور الثقافي العربي قويا في الجزيرة حتى بعد فشلهم السياسي ويقول ابن جبير عن هذه المرحلة في مدينة بلارمو من جزيرة صقلية «وأحسن مدنها قاعدة ملكها. والمسلمون يعرفونها بالمدينة ،والنصارى يعرفونها ببلارمة. وفيها سكنى الحضريين من المسلمين ،ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم والأرباض وسائر المسلمين بضياعها، وجميع قراها ،وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها. ولكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام أكبرها وأحفلها ،وبعدها مسينة».
فعلى مدى حوالي ثلاثة قرون طبع العرب المسلمون الجزيرة بطابعهم الخاص ومازالت معالمها شاهدة عليهم.يتبع