ما إن نطق صوت الحق «اللّه أكبر» حتى تسارعت الخطى.. وبدأت المصافحات وترديد «السلام عليكم» تخيّم على أجنحة فضاء جمعية المسنين بمنوبة..ثلّة من أعضاء جمعية «أيادي الرحمة» اعتذرت للأهل: فاليوم الأول للإفطار سوف يقضّونه مع ال120 نزيلا من أمهاتنا وآبائنا، ممّن شاءت الأقدار أن يكونوا نزلاء في هذا الفضاء الاجتماعي..الموقع في قلب مدينة منوبة.. يقع المركز الذي ظننّاه خطأ أنه تابع للدولة التونسية.. لكن رصدا بسيطا وسؤالا أبسط لمدير المركز والطاقم المشرف على هؤلاء النزلاء الذين اختلفت قصصهم، كشفا أن في الأمر خطأ.. دار المسنين، التي تتوسط مدينة منوبة، هي فضاء رحب، لا تنقصه الخضرة، فأشجاره الوارفة تجعل من المقام فضاء لسعادة لم يطلها آباؤنا وأمهاتنا من المسنّين..يقول السيد مجدي زرّوق مدير المركز بعد الثورة، إنه تفاجأ لما أتى الى هذه المهمة، لأنه وجد أن المركز يعاني من خسارة déficit يقدّر ب230 مليون دينار.والسبب يعود الى أن حجم الاعانات والمساعدات للمركز، تناقصت الى حدّ الانعدام.. كيف؟
كانت المساعدات تأتي من عديد المؤسسات المنتجة للمواد الغذائية والاستهلاكية، بمجرّد مكالمة هاتفية فيها «أمر» من «الأعلى» (القصر وحاشيته) لكن اليوم يجد المسنّون أنفسهم أمام مصاعب تجعل الإدارة في مأزق..
وجبة الأكل خلال شهر رمضان، أصبحت تصل الى أربع وجبات «لأننا لا نستطيع أن نستثني الذين لا يصومون من مائدة الافطار».. يقول أحد الموظفين الذين آثروا وعلى رأسهم المدير أن يتغيّبوا عن أول مائدة إفطار عائلية مع أسرهم، وتجالسوا مع الأسرة الموسّعة داخل هذا المركز، يتناولون إفطار فاتح رمضان 2012.
بالكثير من الغبطة والانبهار، يستقبل المركز، عددا من الطلبة الدوليين، جاؤوا من الصّين ومن تشيكيا ومن اليابان ومن زيمبابواي ومن مصر ومن المكسيك، طلاّب وطالبات، جمعهم «فعل الخير» فمكّنهم المركز (رعاية المسنّين) بمنوبة من المبيت (دار عرابي) وهي عبارة عن قصر مصغّر، وتحمّلوا حرارة الطقس، من أجل أن يساعدوا المسنين في هذا المركز، على قضاء شؤونهم، وأخذ أدويتهم والمساعدة في تنظيف المكان، الذي كان نظيفا بطبيعته..
خالتي حبيبة تمدّدت على الفراش، فراش المرض.. وربما فراش الموت.. العلم عند ا&.. المهمّ أنها أعيدت من المستشفى على أساس أنها تقضي ساعاتها الأخيرة.. كان ذلك منذ شهرين.. فقد نفخ المولى في صورتها، لكنها ممدّدة تستمع الى من يحدّثها، وتتناول طعامها عبر الأمصال.. الخالة حبيبة، يناهز عمرها العقد التاسع ليس لها اطفال ولا أهل بعد أن توفّي زوجها...
النساء في المركز هنّ ثلث النزلاء.. قصص مختلفة، لكن المصير واحد.. تجمعهم أسقف الاجنحة المتوزعة، ففي كل جناح يقيم 12 نزيلا، اثنان أو ثلاثة في كل غرفة، يحظون ببيت استقبال وتلفزيون ومكيّف.. ومطبخ...
فمثلا تصرّ «خالتي ربح» على أن تطبخ بنفسها.. مات زوجها.. ولم يترك لها أطفالا.. تخرج في بعض الاحيان لتزور أبناء اخوتها، لكنها غير مستعدّة، للتحوّل عند أحدهم والاقامة عنده.. هي أصيلة مدينة الكاف وتقول: «أنا امرأة حساسة، لو أن أحدهم غضب على أبنائه أقول في نفسي ربّما لأنه يستثقل وجودي عنده...» المهم هي تفضل الاقامة في هذا المأوى...
«مات أبنائي وتوفّي زوجي».. هكذا تقول السيدة محبوبة.. قالت انها تفضل البقاء هنا.. على أن تلجأ الى أطراف العائلة أيضا.. الرجال كما النساء، في هذا المركز، يصرّون على أن تصان كرامتهم.. ولا يريدون أن يغادروا هذا المركز الا الى المثوى الاخير كما يقول أحد النزلاء الذي امتطى كرسيا متحرّكا لعجز ألمّ به.
المجتمع المدني وفاعلو الخير هم الجهة المموّلة أساسا لاحتياجات المركز.. هناك احتياجات أكيدة وعاجلة تتمثل في الماء والحليب وخاصة الحفاضات للكبار les couches Adultes، هذا ما علمناه من المشرفين على المركز، معبّرين عن امتنانهم لعدد من التونسيين من فاعلي الخير، حيث يختزل هذا العمل الخيري في ما أقدمت عليه سيّدة في احدى المرّات فقد جلبت «ثورا» الى المركز، وعندما ذُبح أمامها، استأذنت بالخروج، وعندما طُلب منها ان تتسلّم وصلا.. قالت «فاعلة خير.. وربّي معاكم...».
جمعية «أيادي الرحمة» التي تتبنى هذا المركز، يحاول اعضاؤها أن يربطوا الصّلة مع فاعلي الخير من أصحاب المؤسسات المنتجة للمواد الغذائية، والصحية، وهم يقولون انهم مازالوا على الخطى الاولى، وأن هناك استجابات من قبيل، أن مقاولا في الدهن، تولّى دهن هذا الفضاء الشاسع، وهناك من تكفّل بالمؤونة لمدّة معيّنة لكن مخازن المركز مازالت شبه خاوية.. لذلك فإن أعضاء الجمعية، قد عبّروا عن أمنية في أن تقع عملية تشبيك مدني من أجل النهوض بآبائنا المسنين،الذين يحاول المشرفون على المركزو تحسيسهم بأنهم في فضاء عائلي.