لم تكن سهرة الأحد الفارط بقصر العبدلية سهرة عادية فرغم الإقبال الجماهيري المتوسط إلا أن التفاعل الكبير مع ما قدم في عرض «بحور العشق» جعل من الحفل استثنائيا على كلّ المستويات إذ أن برنامج العرض يدل على اختيارات صائبة تدعمت بالأسماء المؤدية عزفا وغناء. الحكاية وما فيها أن مبدعا تونسيا اسمه خالد بن يحيى (عازف متميز على آلة العود) قرّر إعداد عرض متميز في اللون الصوفي، دون أن يقع فيما هو مجر ومتداول مع إضفاء روح موسيقية خاصة على العمل فكان عرض «بحور العشق» عرض جمع الفنان خالد بن يحيى مع الفنانة المتميزة عبير النصراوي والشيخ أحمد جلمام، صاحب الصوت الرائع والمؤثر والذي قال عنه بعض الجماهير إنه خليفة القارئ الراحل عبد الباسط عبد الصمد.
البداية كانت مع الشيخ أحمد جلمام بتلاوة لآيات من ذكر الله الحكيم، لينظم بعد ذلك إلى المجموعة الصوتية ويؤدي معها «تجلّيات» في مدح الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم ومن الغناء الجماعي إلى العزف الجماعي مع استفتاح نوبة الذيل.
ثم تعود المجموعة إلى الغناء الجماعي عبر التواصل بين الفنّانة عبير النصراوي وكل المنشدين في وصلة مغربية لتعود الفنانة التونسية إلى الأداء الفردي في أغنية «أنا مالي فيّاش».
وصلات
تدرّج فني جمالي أعجب الجمهور وتواصل مع تقسيم العرض إلى وصلات، كانت أولها «وصلة بيّات» وكانت بدايتها بعزف جماعي لمقطوعة «شرف بيات» ثم جاء الأداء للثنائي المتميز الشيخ أحمد جلمام والفنانة عبير النصراوي الذين أنشدا «سبحان من ذكره» و«الله ا لله» و«مولاي صلي»، وفي «وصلة حجاز» الموالية أشد من الثنائي وخاصة الشيخ أحمد جلمام ب«عليك صلى الله» و«سلامي» و«الحمد لله» وختم بالتكبير عرض تخللته ارتجالات موسيقية رائعة جمعت أحد عازفي الإيقاع بالعازف المتميز على آلة الكمنجة الأستاذ بشير السالمي، ارتجال دام قرابة العشرين دقيقة صفّق له الجمهور الحاضر بحرارة، لأنه ارتجال كان كالدرس في الموسيقى ذكّر البعض بالقصة المعروفة بين فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب لما سلّم عليه عزفا على العود، فرد التحية بأفضل منها وبطبيعة الحال كانت المقولة الشهيرة: «لو لم يكن فريد في الوجود لكنت أنا رب العود».
قف...
كل ما ذكر عن عرض بحور العشق وما لم يذكر عن عروض ذات طابع ديني أو صوفي، يذكّر حتما بالفترة السوداء التي عاشها قصر العبدلية، فهذا الفضاء الثقافي، لا يمكن أن يكون إلا للثقافة والإبداع وليس بمنأى عن الهوية العربية والإسلامية لهذا الوطن، لكن هويتنا بطبعها لا تقبل الانغلاق والتحجّر، بل هي منفتحة على الاخر، منذ القطع مع الجاهلية لذلك تجد الموسيقى كونية وتجد الأغاني الدينية في عرض «بحور العشق» بتوزيعها الموسيقي المتميز باحثة ومبحرة على الانعتاق من المحلية في سبيل أن تكون كونية وهي بطبعها كونية أو لا تكون، ورغم كل ما قيل عن «بحور العشق» فإنه ألغي من مهرجان الحمامات!