كان المذهب الحنفي هو المذهب الثاني بإفريقية بعد المذهب المالكي، ولئن بدا متساويا مع هذا المذهب في عهد الولايات وأوائل العهد الأغلبي، فإن أمره بدأ يتضاءل مع تولي الإمام سحنون القضاء في القيروان، ولم يظهر فيه علماء يفتون في المذهب الحنفي أو يدرسونه إلا قليلا، إلا أن أمر هذا المذهب تقوّى في العهد العبيدي لموافقة الأحناف الفاطميين على تفضيل علي بن أبي طالب على من تقدمه من الخلفاء رضي الله عنهم كما يذكر القاضي عياض في «ترتيب المدارك» يقول: «كان الظهور في دولة بني عبيد لمذهب الكوفيين لموافقتهم إياهم في مسألة التفضيل، فكان فيهم القضاء والرئاسة» (ج.1، ص25).
ولكن الأحناف لم ينقطعوا عن إفريقية طيلة العهود حتى بعد تولي سحنون القضاء ففي ترجمة العالم يحيى بن عمر المالكي إشارة إلى جفائه للحنفيين فكانوا يتهددونه وكان يخشى من المرور من الحي الذي كان يسكنه أتباع المذهب الحنفي بالقيروان وبسوسة (معالم الإيمان، ج2، ص242).
إلاّ أن العامة كانوا متمسكين بالمذهب المالكي حتى أن المعز بن باديس حين أعلن انفصاله عن الخلافة الفاطمية بالقاهرة وموالاته للخلافة العباسية ببغداد حمل الناس جميعا على اتباع المذهب المالكي دون المذاهب الأخرى مجاراة للعامة وتوحيدا لإفريقية في المذهب المالكي وحسما للخلافات كما يعلمنا ابن الأثير في كتابه «الكامل».
وفي بحثنا عن العلماء الأفارقة في العهد الحفصي لم نعثر إلا عددا نزرا عن فقهاء في المذهب الحنفي منهم أبو عبد الله محمد الزناتي المهدوي الحنفي جاء ذكره في رحلة التجاني، تلقى المذهب الحنفي في المشرق وتفقه فيه، وكان مقربا للسلطان الحفصي أبي زكرياء مؤسس الدولة الحفصية كما كان أبو زكرياء يقول بالمذهب الموحدي مذهب عبد الله بن تومرت وعبد المؤمن بن علي وكان هذا العالم يدرس مذهب أبي حنيفة وتخرج على يديه علماءلم يتخلوا عن المذهب المالكي ولكنهم استفادوا به مثلما كان يفعل أسد بن الفرات حينما كان يدرس المذهبين، ويقول له الطلبة والعلماء حينما يدرس الفقه حسب أحد المذهبين: «أوقد لنا القنديل الثاني» مما يدل على تسامح أهل القيروان وإفريقية عموما مع المذاهب السنية ويستفيدون منها جميعا.
وكان من تلامذة محمد الزناتي المهدوي الحنفي عبد الرحمان بن الدباغ صاحب كتاب «معالم الإيمان».
إلا أن المذهب الحنفي رجع بقوة إلى البلاد التونسية في العهد العثماني مع دخول الأتراك إلى تونس سنة إحدى وثمانين وتسعمائة (981ه)، حينما قدموا إلى الحاضرة وخلصوها مع أبناء البلاد من احتلال الإسبان إلى تونس مدى ثلث قرن.
يقول محمد بن الخوجة في أحد فصوله بالمجلة الزيتونية عن القضاء الشرعي وخطة شيخ الإسلام في تونس.
«لما دخلت الإيالة التونسية في طاعة آل عثمان أواخر المائة العاشرة عاد المذهب الحنفي للظهور، وأخذ مركزه في المقدمة لأنه كان مذهب ولاة الأمر» (المجلة الزيتونية، المجلد3، ج5، 1939).
كما أن جوامع الخطبة بتونس العاصمة في العهد الحسيني وعددها تسعة عشر جامعا توزعت على المذهبين، منها اثنا عشر جامعا تقام فيها الصلوات على قواعد المذهب المالكي وسبعة لإقامتها على قواعد المذهب الحنفي (انظر محمد بن الخوجة، معالم التوحيد، الطبعة الأولى 1939 ص4).
كما أن التعليم بجامع الزيتونة أسند بالمساواة في عهد المشير الأول أحمد باي إلى المشايخ المالكيين والمشايخ الحنفيين، إذ جعل التدريس في الجامع في طبقة واحدة مركبة من ثلاثين مدرسا نصفهم من علماء الحنفية ونصفهم من علماء المالكية (نفس المرجع ص39).