لماذا تراجع دور المؤسسة الثقافية بصفاقس، ولماذا انتشرت في المقابل المقاهي، وهل من علاقة بين التنمية الثقافية والتنمية الإقتصادية؟.. وكيف السبيل للنهوض بالمشهد الثقافي خدمة للتنمية الشاملة؟ فمن المسؤول عن هذا التراجع؟النوادي الثقافية كانت معروفة ومنتشرة بصفاقس، وكان الناس اوفياء على نطاق واسع للمسرح وللسينما وللمعارض الفنية والامسيات الادبية، وكانت دورالثقافة والشباب ونوادي الكشافة والمصائف والجولات والنوادي الصحية والعلمية... فضاءات منتشرة لاستقطاب الشباب، الامر الذي جعل الثقافة في زماننا شعبية وجماهيرية وقريبة من الناس بحيث كانت علاقة أفقية قائمة بين الفرد والمؤسسة الثقافية بحكم المسالك المتعددة التي كانت تربط الطرفين. ومنذ سنوات عديدة والى اليوم تغيّر المشهد الثقافي وبرزت صورة مغايرة ومخلة بالحقل الثقافي:
تراجع دور المؤسسة الثقافية والشبابية عامة وأصبحت «منطقة طاردة» للرواد بسبب تداعي البناءات ونقص التجهيزات وضعف التسيير والتصور... وغابت فسحة اللقاء والحوار والمناقشة.
وذبلت وردة المطالعة والمكتبات العمومية وجمعيات أحباء المكتبة والكتاب.... وغاب العلماء والشعراء والكتاب والنقاد عن المجتمع؟ ورغم ان الغرب والشرق مدنا بكل وسائل الاتصال التي تمكننا من الاطلاع على المعلومات وكشف المعرفة، الا انهما احتفظا بالقوة الذاتية للمجتمعات ألا وهي قدسية القراءة ومزاياها في كل زمان وفي كل مكان وصدق من قال «لا ثقافة بدون كتاب».
كما قطعت المقاهي بسلم درجاتها الطريق امام كل الفضاءات الثقافية، وأخذت الثقافة اتجاها نحو المهرجانات ذات الطابع الترفيهي الاستهلاكي العابر.طبعا لسنا نتحدث عن المقاهي الادبية أو مقاهي الانترنت؟
هذه المقاهي هي طبعا بدون تعميم لأنها أصبحت تضم كل شرائح المجتمع مرتعا للقيل والقال والتدخين والشيشة ولعب الورق وهدر الوقت... وهي لا تخلو من سلبيات التسكع وترويج قيم الانحلال والتهور...
وإذا كان الغرب يتصف بصفة الانضباط والعمل والبحث والعلم وهي أمور مهمة للنجاح والتقدم، فإن ثقافة الكسل والبخل والكسب السهل والترفيه وقلة المعرفة وبناء «قصور في اسبانيا» هي التي سادت حياتنا العامة تبعا للمنظومة الثقافية الرديئة.
ان الثقافة التي انتشرت لدى الناس اليوم لا تنشر السلوك السليم وأسلوب الحياة المغاير ولا المعارف ولا الافكار ولا الذكاء....التنمية الثقافية هي شرط التنمية الاقتصادية
لهذا آن الأوان أن نطرح خطابا ثقافيا جديدا، خطاب مواطنة وان تضع دولتنا استراتيجية جديدة تقدر فيها الثقافة وتعطيها قيمتها التي تستحق.
فالثقافة تعتبر عنصرا فاعلا ومؤثرا في إنجاح برامج التنمية لأنها تلعب دورا مهما بالنسبة لسلوك الإنسان والتقدم الذي يحققه على المستوى الشخصي ومن ثم على المستوى المجتمعي. لهذا نعتقد ان دور الثقافة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي ليس موضع تساؤل، ولابد من الاعتراف بالبعد الثقافي ضمن حركة البناء ومنوال التنمية، ويتوقّف ذلك على قدرة المجتمعات على الاستثمار في الثقافة وتدعيم وظيفتها وتعزيز مكانتها ودورها في التنمية، في المقابل ان إهمال الثقافة وضعف الاستثمار فيها يشكل عوامل رئيسية في إعاقة التنمية.
لابد ان نقتنع بان الانفاق في الثقافة تماما مثل الاستثمار في الطرقات والمستشفيات والكليات والمصانع وغيرها من القطاعات الحيوية والمركزية. وعلى الدولة ان تقيم البنية الثقافية التحتية ولمدى طويل
ويستوجب عليها توفير الاعتمادات وتمويل هذه المشاريع التي يعود لها الانجاز بالدرجة الاولى.
لماذا لانتصور قاعدة من النوادي والمركبات الثقافية والرياضية منتشرة في القرى والأحياء وقريبة من الناس.. يتدرب فيها الشباب وغير الشباب على نمط ثقافي جديد وعلى ضرورة ان يمتلئ الجسم بأوكسجين الادب والفن والتاريخ والجمال والمنطق والعقلانية... الحاجة أكيدة لتصور شامل وممتد لخلق جيل جديد متمسك بالجذور وقادر على خوض غمار الحداثة والتقدم.
ثم لماذا لم نعد نعتبر ونقدر ان الثقافة هي مجموع المثقفين الفاعلين في المجتمع، وإذا كان المثقفون قادرين على الفعل الحقيقي في احداث نقلة جوهرية في مدارات الحياة الثقافية اولا والسياسية ثانيا والاجتماعية والاقتصادية ثالثا، فلا بد ان يكون السؤال اليوم عن المثقف على غاية من الاهمية: مواصفاته، دوره، قدرته على التحرك ... باختصار حال المثقفين وأداؤهم ومدى قدرتهم على امتلاك زمام المبادرة؟ هذه مسالة جوهرية امام الخوف اليوم من الانسياق وراء الاطروحات الحزبية الضيقة أو الطائفية وأمام المثقف الذي يركّز على التباعد لا على التقارب، ويحرّض على القطيعة لا على التواصل والحوار. ان الطبيعة تمقت الفراغ ورأينا على مدى عقود طويلة اين يدفع التصحر الثقافي بالشباب؟؟
أمام هذه الرؤية حتى لا نفقد صلتنا بالميدان لماذا تركز الوزارة على المهرجانات. هي صحيح في المطلق تحقق المتعة والتنقل والسهر والاستمتاع والرقص... ولكن الافضل معها ان نجد سلسلة من النوادي الثقافية التي تبدل « الاستهلاك» إلى «انتاج مبدع» في مختلف اغراض الاداب والفنون لخدمة اغراض التنمية. ان لكل نموذج اجتماعي منظومة قيم وسلوكيات وأفكار أو جمال وذوق وعقل وبذلك تتحول الثقافة من زاوية التهميش إلى قوة دافعة نحو التغيير والتقدم لأنه لا ننسى ان الثقافة في مفهومها الواسع هي السياسة والاقتصاد والمجتمع وكل مظاهر الحياة. حتى الدول تقاس دائما بما وصلت اليه ثقافتها.
مدينة سالسبورغ بالنمسا مشهورة لأنه ولد فيها موزار واليوم تجد البيت العتيق بالمدينة القديمة الذي ولد فيه وعاش به إلى سن التاسعة عشرة مزارا عاميا نجد به البيانو الذي صنع شهرته...ومدينة فرنكفورت الالمانية اقامت متحفا لشاعرها غوت. وفي مدينة برشلونة الاسبانية وضعت كل اعمال بيكاسو في قصر رائع يعود إلى العصر الوسيط.برج القلال، تجربة ذكية ورائدة
وفي ساحتنا السياحة لا تنمو الا بهذا الرؤية ذات البعد الثقافي. والتاريخ الثقافي والسياحي بصفاقس على سبيل المثال يزخر بالأعلام والمعالم ولكنه مازال مجهولا ونستحضر على الاقل علي النوري وابو الحسن اللخمي ومحمد الجموسي وبودية وبوبكر عبد الكافي وشيخ المؤرخين مقديش وخليل علولو ويوسف الرقيق وعديد الشعراء والكتاب..والاثار المغمورة في طينة والكنايس وجبنيانة والمحرس وقرقنة... وفي غابات صفاقس (الاثار الرومانية المكتشفة بطريق العين) وقصر الهناء بمنزل شاكر. وعلى الدولة ان تعطي المثال الجيد وان تقيم البنية التحتية الثقافية ومستلزماتها لتجر بعد ذلك القطاع الخاص إلى هذا المجال الديناميكي لان الثقافة هي امر تراكمي حيث تتكدس نتائجها الايجابية مع الزمن
ولنا في برج القلال بطريق قرمدة تجربة ذكية. ما أحلى وأجمل أن يضع ابن المدينة سي عبد السلام القلال على ذمة الثقافة وأهلها برجا تقليديا رائعا وان يحيطه بالرعاية والدعم ليجعل منه رائعة ثقافية تشع وتأخذ يوما بعد يوما اشعاعها الداخلي والخارجي رغم ان فتحه لم يكن الا منذ سنوات قليلة.
والاهم من ذلك ان يعمل برج القلال من اجل بيئة تدفع إلى نمو ثقافة الانسان في اطار متوازٍن وايجابي واخلاقي ضمن برمجة تعزز ثقافة الابداع والابتكار وثقافة القراءة وثقافة الاطلاع على عادات الآخرين وثقافة احترام الآخرين وثقافة الاختلاف في الرأي.....وكلما ترسخت قيم المواطنة هذه كلما تقلصت ثقافة اللجوء إلى العنف التي هي مسلك تدميري لا يقود إلى النمو والتقدم لانه لا يغير الطباع ولا العقول.
من هذا المنظور نستطيع أن نقول إذن، إن التنمية الثقافية هي شرط للتنمية الاقتصادية، وبالتالي فلا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية بدون أن تواكبها منذ البداية تنمية ثقافية تمهد لها وتساهم في استدامتها والمحافظة على مكتسباتها...
لذلك الثقافة امر هام وعلينا أن نجعل من الثقافة قوة تدفع بالبلاد نحو التقدم وتنشئ له التفوق، ولكن هناك في المقابل ثقافة الجمود التي مازالت قائمة ومنتشرة ومتسرطنة، مما يجعل الثقافة تواجه صعوبات في الولوج إلى الحداثة. والواقع لا يمكن ان نكرس هذه الحداثة بدون ان نتميز ثقافيا ولا مفرّ من ان نختار ثقافة معينة نعتمدها من اجل التقدم «ان الثقافة منهج أساسي للتقدم الاجتماعي والاقتصادي» كما يرى عالم النفس والفيلسوف البراغماتي الامريكي جون ديوي. لابد من الاعتراف بالبعد الثقافي ضمن منوال التنمية
الثقافة ليست زينة ولا ترفا في حياة الناس، ولكنها استحقاق ضروري ومدخل حتمي للتقدم وتحسين حياة الناس، فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح والحسن وتتمسك بحاكمية المنطق للأعمال والحياة، لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم فيه أو يراهم الآخرون، وكذا الطعام والطرقات والنقل، ثم تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والانتخابات والتشريعات والقرارات والسياسات.
ونحتاج لتأصيل هذه الثقافة إلى التربية والتعليم وتعزيز الاعلام الثقافي الذي يراهن على الابداع وكذلك على الحوار بالمعنى الأشمل لهذه الكلمة والانفتاح على الثقافات الأخرى ومدّ الجسور، وان نجعل رُقْعَة الثقافة في المساحات الاعلامية أوسع وأكثر رحابة.