من بين أصدقاء العمر الذين تعايشت معهم أدبيا وانسانيا منذ بداياتي الأولى الشاعر سامي مهدي الذي حاوره الشاعر الفلسطيني هشام عودة في هذا الكتاب وأستطيع القول إن سامي مهدي يتوفر على قدر كبير من الجدية ولذا لم أستغرب أن تكون أول زاوية يكتبها باسم مستعار كانت بتوقيع «جاد» وقد بقي جادا في قراءاته وأحكامه ودقته حتى أن الشاعر أنسي الحاج بعد أن أطلعته على ما كتبه عنه الشاعر سامي مهدي بأنه لم يعرف قراءة كهذه اذ بدت له وكأنها مرافعة دقيقة وأتذكر أنه قد أعاد على مسمعي هذه الملاحظة التي تتفرد عن الأحكام ذات الأهواء التي يكتبها هذا الأديب أو ذاك كان ذلك عام 1985 أثناء إقامتي اللبنانية وجدية سامي مهدي لم تعب عن كل أجوبته حتى و إن كان السؤال بسيطا ولمجرد الاستيضاح عن أمر يسأله هشام عودة مثلا عن مصادر معرفته الأولى عدا القراءة فيجيبه (ربما يصح أن أقول إن الفنون التشكيلية كانت بالنسبة لي مصدرا آخر من مصادر المعرفة) لكنه بعد ذلك لا يترك جوابا كهذا دون أن يهب في استكمال تفاصيل لاحقة تتعلق به حيث أخذ يتحدث عن متابعاته للمعارض وأسماء الفنانين الذين أحب أعمالهم.
وتحدث عما اضافه إلى مكتبته من تلك المؤلفات القيمة التي كانت تبيعها شركة مخازن أورزدي باك ببغداد عن أشهر الفنانين التشكيليين في العالم كما تحدث عن المتاحف العالمية التي زارها وكذلك القصور والقلاع في المدن الفرنسية وهذه أمور مهمة جدا للشاعر اذ أنها توسع من مدى رؤيته ورؤاه وربما كان في جواب كهذا دليل لدارسي شعر سامي مهدي.
ونذكر هنا أن الشاعر سامي مهدي كان واحدا من الشعراء العراقيين الذين أقدموا على اصدار أول مجلة شعرية عراقية هي «شعر 69» وذلك عام 1969 كما يرد في اسمها ورغم أنه لم يكن معارضا سياسيا لا هو ولا الذين معه وقتذاك ومع ذلك تم ايقاف هذه المجلة التي كانوا يعدون لها كي تكون أهم مجلة شعرية عربية لاسيما أن وراء مشروعها عددا هم أبرز شعراء الستينات أمثال فاضل العزاوي حميد سعيد فوزي كريم خالد علي مصطفى وسامي مهدي. لقد اصطدمت المجلة بالذائقة الشعرية التي كان يمثلها وقت ذاك الشاعر ووزير الثقافة المرحوم شفيق الكمالي.
وكان السؤال الذي وجهه له هشام عودة هو : (لو أتيح لك الآن اصدار مجلة متخصصة بالشعر فكيف ستتعامل معها)؟ ويكون جوابه : (منذ أن أغلقت مجلة شعر 69 بالطريقة المتعسفة التي أغلقت بها وأنا أحلم باصدار مجلة تختص بالشعر وشؤونه وقد علقت تنفيذ هذا الحلم إلى ما بعد التقاعد من الوظيفة) ثم يستدرك في الجواب نفسه بأن (الاحتلال قد أجهز على مشروعه كما أجهز على أحلام الكثير من العراقيين وحتى لو بقي من هذا الحلم شيء فقد أصبح تنفيذه أصعب من ذي قبل بكثير وخاصة بعد اتساع حركة النشر الإلكتروني وتراجع أهمية النشر الورقي).
ولكن مشروع المجلة الحلم مازال يسكنه وقد تحدث بالتفصيل عنها وكيف يريدها أن تكون ولو أنه استطاع انجاز مشروعه فإن مجلة كهذه وبالأبواب المقترحة لها حتى و ان كانت مشروع شاعر واحد إلا أنها من المتعذر أن تكون شهرية.
وفي الكتاب هناك سؤال عن اللغة الثانية لدى بعض الشعراء العراقيين وهي غالبا الانقليزية وليست الفرنسية كما هو الحال في بلدان المغرب العربي عدا ليبيا ولكن سنوات ما بعد ثورة تموز (جويلية 1958) قد أدخلت لغات الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية وخاصة الروسية ومن رأي سامي مهدي أنه عرف (منذ البداية أن معرفة الأديب بلغة حيوية ثانية ضرورية ، وربما واجبة وهذا مما زاد اهتمامي بتطوير معرفتي بهذه اللغة وأدبها).
وتحدث عن بدايات تعلمه اللغة الفرنسية في معهد بمدينة فيشي الفرنسية وكيف أصبح يشتري الكتب الشعرية الفرنسية استعدادا لما سيكون أي بعد أن يتعلم هذه اللغة التي صار بعد ذلك يترجم عنها شأنه شأن الشاعر سعدي يوسف الذي تعلم الفرنسية بعد اقامته في الجزائر.
أما عن تأثير تعلمه لهاتين اللغتين (الانقليزية والفرنسية) وقراءاته بهما فيقول : (قرأت بهما الكثير مما لم يكن قد وصلنا بعد عن طريق الترجمة أو لم يصلنا حتى الآن وخاصة الشعر وواكبت تطور شعراء الحركة في بريطانيا وشعراء البتنكس والجيل الأسود في أمريكا وقرأت قصيدة النثر وتاريخها وقرأت نماذج عديدة من الشعر الفرنسي والشعر العالمي).
والفرنسية كانت وسيلة لقراءة مايكو فسكي وكافا في وباول تسلان وفرنا ندوبيوا. والانقليزية كانت وسيلة لقراءة لوركا وكوازيمودو ومونتالي وبوشكين وليرفيتوف وايفتشينكو وفوزنسكي وميرو سلاف هولوب وغوتفريد بن وبرود سكي وسيرس وايلش وغاتوس.
وهي كما نرى قراءات واسعة في مدونة الشعر الانساني جعلت المعنيين بالشعر العربي الحديث يرون في سامي مهدي شاعرا «مبدعا» و«مثقفا» بامتياز. (وللحديث قسم ثالث وأخير)