تغيّرت المعركة فلن يكون الأمر صراع حيوانات ولا صراع أشجار ولا خطوط ودوائر ولا اشكال هندسية لتثبيت الهُوِيّة البصريّة كما حدث في انتخابات 23 أكتوبر الماضي بل يبدو أن الأحزاب التونسية لجأت لشكل آخر أكثر مباشرة في صراعها السياسي. هذا الشكل الجديد تمثّل في رفع شعارات سياسية في مؤتمراتها تقدّم بعجالة وباختصار ما تودّ الأحزاب إيصاله للناخب التونسي كلّ من موقعه فأحزاب السلطة تعِدُ بالأفضل وبالالتزام وأحزاب المعارضة تعد بقدرتها على كسب المعركة لكن التونسي لا يبدو مكترثا بما يدور حوله من تنافس في الشعارات بحسب ما يراه الباحث في علم الاجتماع السياسي طارق بلحاج.
كما أنّ هذا الخطاب الجديد الذي تتقدّم به الأحزاب التونسية لمعركتها السياسية يجترّ نفسه ولن يقنع الناخب كما يراه المحلل السياسي وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد.
الناخب محبط ويائس
واجه التونسي، الخارج لتوه من عنق زجاجة قمع سياسي للحريات وللتعددية استمر لربع قرن، بعد الثورة تخمة حزبيّة نجح في التفريق بينها، بعد أن عجز عن حفظ تسمياتها، بالتفريق الجيّد بين الحمامة والجمل وبين النجمة والدائرة وبين الشجرة والظل وغيرها من الشعارات التي رفعتها الأحزاب.
كان عليه حينها حفظ صور الحيوانات وكل الاشكال الهندسية الممكنة من خطوط ودوائر ليهتدي لضالته الحزبيّة. حدث هذا في الانتخابات الأولى التي فتحت أبواب قصر باردو ل217 نائبا في المجلس الوطني التأسيسي لكتابة دستور الجمهورية الثانية. ووصف المراقبون الناخب التونسي حينها بأنه كان محبطا ويائسا ويتوق لحلول سريعة وقصوى لذلك شدّتهم جاذبيّة أحزاب تتماشى مع مشاعرهم وطموحاتهم بالتغيير السريع. ذات الملامح ما تزال ترتسم على الناخب التونسي بحسب المراقبين خاصة مع تعثّر ملف الاصلاح والمحاسبة والكشف عن ملف القناصة الذين اصطادوا الشباب المحتج في الشوارع والتشغيل والتنمية في الجهات المحرومة وغيرها من الملفات المعطّلة الى حين. في المقابل نشطت مؤتمرات الأحزاب وتواترت، وهي التي خرج بعضها لتوه من السرّية، لكنها عموما تركّزت على ترتيب البيت الداخلي والبحث عن التحالفات استعدادا للانتخابات الثانية كل هذا يدور بعيدا عن الشأن العام وفي غياب الالتفاف الجماهيري بحسب قيس سعيد وطارق بلحاج.
خطاب يجترّ نفسه
«نتحد»، شعار المؤتمر التأسيسي لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، و»مؤتمر الانتصار للجمهورية»، شعار المؤتمر الاستثنائي الثاني للحزب الاشتراكي، و«متحدون من أجل تونس»، شعار المؤتمر الخامس للحزب الديمقراطي التقدمي والمؤتمر التأسيسي للحزب الجمهوري، و«مستقبلنا بأيدينا»، شعار المؤتمر التاسع لحزب حركة النهضة، و«ملتزمون»، شعار المؤتمر الوطني الثاني لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، و«من أجل استكمال مهام الثورة»، شعار مؤتمر حزب العمال، و«من أجل توحيد القوى الديمقراطية»، شعار حركة التجديد، وغيرها من الشعارات كان عنوانا لمؤتمرات أحزاب المعارضة وأحزاب السلطة. جميعها تشابهت في البحث عن مخرج جديد نحو المعركة السياسية والانتخابيّة.
«تواترت مؤتمرات الأحزاب وسبقت عودة المجلس التأسيسي من عطلته البرلمانية وهي تعكس بصفة واضحة الاستعداد للمرحلة القادمة وخاصة الانتخابات التي يفترض تنظيمها بعد وضع الدستور». يضيف «هذه الشعارات تؤكد هذا التصور أو هذا الاستعداد منذ الآن وتؤكد أن هذه الأحزاب لم تقدر على تجديد خطابها فنفس الشعارات التي رفعت اعيد رفعها ولو بصيغ أخرى أو بعبارات مختلفة».
يقول الاستاذ سعيد أيضا إنّ «مؤتمرات الأحزاب تشير الى أنه هناك تجاذبات داخلها وفي بعض الاحيان هناك إعادة تشكّل وهناك ايضا محاولات لتشكيل جبهات ولكن دوما في إطار التحضير لهذه الانتخابات ومرة أخرى للأسف إذا كان الشعب أبدع آليات جديدة للنضال ولم يكن في حاجة على الاطلاق في ديسمبر 2010 وجانفي 2011 إلى تنظيم حزبي يتولى قيادته فإنّ الأحزاب في المقابل لم تكن قادرة على ابداع خطاب جديد وبقيت تتعامل مع هذا الوضع المستجد في التاريخ بنفس الآليات القديمة هناك تشابه في مستوى الخطاب وكأننا في حملة انتخابية».
خرق الشعار خسارة للناخب
ذكر الأستاذ سعيد ايضا أن الانتخابات القادمة يبدو أنها لن تخرج عن اطار الخطاب من أجل الحملة الانتخابية ومن المؤسف أيضا بحسب الاستاذ سعيد أن هناك معطّلين عن العمل وهناك ايضا معطّلون عن التفكير لأننا مازلنا نتصور الامر يتعلق بالأمر السياسي كما هو عليه في القرن التاسع عشر والقرن الماضي.
وردّا عن سؤال «الشروق» حول رمزيّة الشعار السياسي قال الاستاذ قيس سعيد الخطاب السياسي يدور حول الشعار الذي رُفِعَ فهو لا يوجّه لأعضاء الحزب والمؤتمرين لكنه موجه للرأي العام والناخبين وبالتالي يكون له رجع صدى إن كان مؤثرا وخرق هذا الشعار يعني خسارة أخلاقية وخسارة أخرى مباشرة لأصوات الناخبين.
من جهته قدّم استاذ علم الاجتماع بجامعة تونس طارق بلحاج قراءة سوسيولوجية للشعارات المرفوعة في مؤتمرات الاحزاب قائلا «الشعارات السياسية ثقافة جديدة خاصة في علاقة ما يسمى بالتسويق السياسي والذي اصبح ضرورة لا بدّ منها لنجاح حزب من عدمه وخاصة بعد سقوط الايديولوجيات الراديكالية وغياب الزعامات المؤثرة فالشعار يغطّي العيوب ويرسّخ في الأذهان ويؤثّر في الناس ولا يقول الحقيقة أبدا وهو آلية من آليات التسويق وخاصة بالنسبة للسلع التي تشهد منافسة أو ركودا كما هو حال المنتوج السياسي في تونس خطابا وسلوكا وممارسة وثقافة».
وفي غياب البرامج السياسية أو ضعفها أو عدم واقعيتها وفي غياب التميزات السياسية الكبرى وفي زخم عدد الأحزاب الطوفانية يصبح الشعار ضروريا للتميز عن الآخرين ويمكن التمييز بين شعارات من هم في السلطة ومن هم في المعارضة.
شعارات السلطة والمعارضة
«مستقبلنا بأيدينا»، شعار المؤتمر التاسع لحزب حركة النهضة، فسّره أستاذ علم الاجتماع بلحاج على أنه شعار لا يتعارض مع اي قانون بقدر ما هو تثبيت قناعة لدى الناس بجدارة هذا الطرف السياسي بالحكم وقدرته على حملهم نحو مستقبل أفضل. وفي هذا الشعار، بحسب بلحاج دائما، فيه إيحاء بالقدرة على مسك اللحظة التاريخية والاجتماعية والسياسية الراهنة ووعد بتأمين مستقبل مشترك أفضل.
هذه الإيحاءات والشعارات تعتمدها الأحزاب الكليانية والشمولية (سواء كانت يسارية أو يمينية) التي ترى نفسها بشكل مؤبد في السلطة لأنها أحزاب عقائدية. أمّا شعار «ملتزمون»، شعار المؤتمر الثاني لحزب الرئيس وثاني أحزاب «الترويكا» الحاكمة، ففيه معنى أخلاقي وسياسي بنكهة براغماتية كما يراه بلحاج. بمعنى أن هذا الحزب-الذي أحدث مفاجأة في انتخابات 23 أكتوبر الماضي بحلوله في المرتبة الثانية- يقدّم نفسه على أنه جزء من السلطة لكن له مهمة تاريخية يلزمه مزيد من الوقت والتمديد لإنجازها فالشعار خارج سياق الزمن ويوحي بالمستقبل وفيه طلب فرصة أطول للبقاء في الحكم وهي دعوة مبطنة لاقناع الناس بانحيازه الى قضاياهم ومطالبهم ولو بعد حين.
أما بالنسبة لشعارات المعارضة يقول بلحاج إنّ شعار «متحدون من أجل تونس» الذي ولد تحته الحزب الجمهوري يمكن النظر اليه من زاويتين زاوية أولى تُعْنَى بالهُوِيّة السياسية للحزب ورؤية الحزب للمستقبل وأن الحزب قادر على تجميع الكل مهما كانت الاختلافات بمعنى أننا قادرون على التعايش رغم الاختلافات والخلافات وزاوية أخرى تعنى بالمستقبل فيقدّم الشعار الحزب على أنه الضامن لتونس الدولة المدنية وفيه إيحاء بأنّ مدنيّة الدولة مهددة والحزب مؤتمن عليها.
اليسار يقطع مع ماضيه
فيما يتعلّق بشعارات اليسار يقول طارق بلحاج إنّ شعار «نتّحد» الذي سيكون اليوم عنوانا للمؤتمر التأسيسي لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد فيه نوع من القطيعة مع الماضي بالنسبة لماضي اليسار المتميّز بالتشتّت وصراع الزعامات والخلافات التفصيلية رغم الايمان بذات المشروع الاجتماعي والسياسي. كما قال طارق بلحاج إنّه لطالما نُظِرَ إلى اليسار على أنه مهدد للوحدة الوطنيّة والسبب في عدد من الانفلاتات والاحتجاجات وبدعوة هذا الشعار للوحدة هناك نفي لهذه الدعاية المضادة على ان اليسار قادر على الاتحاد داخليا ومع القوى الحيّة أو كما يسمّونها هم القوى الثوريّة.
أمّا الشعار الذي رفعه حزب العمّال في مؤتمره المنعقد في جويلية 2011، «من أجل استكمال مهام الثورة»، يرى بلحاج أنّ هناك أحزابا لا ترى نفسها إلاّ خارج السلطة وفي المعارضة وإلاّ ثوريّة ومشاركة في الثورة والناطقة باسمها والمؤتمنة على مسارها ونجاحها ولهذا لا تخلو شعاراتها من مفردات الثورة ومشتقاتها ولا تخلو من مبدإ الاستمرارية في الفعل الثوري انسجاما مع مرجعيّتهم الفكريّة.
كيف يتقبّل الرأي العام هذه الشعارات؟ عن هذا السؤال ردّ طارق بلحاج دون تردد «الرأي العام غير معني أصلا بهذه الشعارات لأنه غير معني كثيرا بهذه الأحزاب والملاحظ لفعاليات المؤتمرات يرى أنها كانت حزبيّة وليست جماهيريّة كما أنّ الرأي العام لا يكترث لذلك من باب التخمة السياسية ومن باب الملل وعدم قابليّته لتصديق الوعود من جديد فاهتمامات المواطن في خبزه اليومي المهدد أكثر من المؤتمرات الموجهة لترتيب البيوت الداخلية للأحزاب أكثر من الاهتمام بالشأن الوطني.
كما قال بلحاج «الشعارات التي ترفع بشكل ما هي إعادة صياغة للعلاقة مع التونسي لكن الامر لن ينجح لأنه أولا الخطاب ليس بجديد وثانيا الشعارات تُصنع في مخابر لا علاقة لها بالمعيش اليومي للتونسي ولهذه الأسباب مجتمعة هم يخاطبون أنفسهم أكثر من مخاطبة المواطن بمعنى أنّ الأحزاب تخاطب داخلها ومنافسها السياسي أكثر من مخاطبتها للمواطن».