قبل أن نواصل سرد الأحداث في لبنان لابدّ من ذكر أمر هام جدّا ألا وهو اندلاع الثورة الإيرانية سنة 1979. منذ انبعاثها انقلبت التحالفات في المنطقة رأسا على عقب عندما أنزل النظام الجديد في طهران علم إسرائيل من أعلى بناية سفارتها و أحل محلّه علم فلسطين. دكتور علي منجور فلنعد إلى لبنان ونقول أنّه عندما يئس «بيقن» من تصفية المقاومة اللبنانية والفلسطينية على يد اليمين اللبناني الذي يقوده حزب الكتائب قرّر بمعيّة وزيره للدّفاع «أريال شارون» ووزيره للخارجية «إسحاق شامير «Itzhak Shamir» الذي كان يلقبه العالم«أينشاتين»Einstein بالإرهابي اليهودي بعد قتله لمبعوث الأممالمتحدة «الكونت فولك فن بارنادوة»Comte Folke Von Bernadotte قرّروا جميعا أن يقوموا بعملية التصفية بأنفسهم. هذا هو السبب الأساسي والأصلي للغزو الصهيوني للبنان.
ففي يوم 4 جوان 1982 بدأ الغزو وأطلق«شارون»على الحملة الإجرامية بسخرية وتهكم عبارة «السلام في الجليل» PAIX EN GALILEE » . تصدّت قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى الجيش الغازي بكلّ ما أوتيت من قوّة وبالرّغم من العتاد الضخم لهذا الجيش برّا وبحرا وجوّا لم يستطع التقدّم إلاّ بعد قتل وجرح الآلاف من المواطنين وتدمير العديد من القرى. حسب دراسة«كابليوك Kapeliouk» وصل عدد القتلى في غزو لبنان إلى 18000 قتيل و30.000 جريح.
منذ أواخر شهر جويلية وصل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت وبدأ في محاصرتها فاهتزّ الصهاينة فرحا لأوّل عاصمة عربيّة تسقط بين أيديهم وكأنّهم لم يتّعظوا ب «هتلر» لمّا دخل جيشه العاصمة الفرنسيّة واحتلّها غير مكترث بالعواقب.
أحدثت جرائم الجيش الإسرائيلي صدمة كبيرة لدى الرأي العام العالمي الذي قام كالرّجل الواحد في مسيرات حاشدة جابت كلّ عواصم العالم وتعالت أصوات الغضب في كلّ أنحاء العالم ممّا أجبر الأمريكان على إصدار وثيقة «فيليب حبيب» وتلاه إصدار الأمم المتّحدة قرارا يقضي بمغادرة كل المقاتلين من غير اللبنانيين هذه البلاد وفرضت الولايات المتّحدة أن يكون المقاتلون الفلسطينيّون أوّل من يغادر من لبنان وأن تشكل قوّة سلام أمريكيّة وفرنسيّة وإيطاليّة لحماية الفلسطينيين المدنيين بدأت طلائع القوّات الأمميّة تصل إلى بيروت ابتداء من 21 أوت.
عندما أحسّت إسرائيل بأنّ العالم يتابع في يقظة تامّة مخطّطاتها سارعت في تنفيذ برنامجها الإجرامي فضغطت على كلّ الأطراف المسيحيّة لكي يقع اِنتخاب بشير جميّل رئيسا للجمهوريّة وهو من أقرب الموالين لها وقد عرف بعدائه الكبير للفلسطينيين وممّا اشتهر به في هذا الشأن مقولته المتداولة عند السياسيين :«لم يعد للفلسطينيين مكان في الشرق الأوسط»كان اِنتخابه عمليّة متوقّعة بعد مقتل«توني فرنجيّة»خصمه السياسي.
أسبوع فقط بعد بلوغ بشير جميّل رئاسة الجمهوريّة وكان عمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين سنة التقى يوم غرّة سبتمبر في المدينة الساحليّة نهاريّة بحكّام إسرائيل الثلاثة وهم«ميناحيم بيقن رئيس الحكومة» و«إسحاق شامير» وزير الخارجيّة و«آريال شارون» وزير الدفاع.
بدأ اللقاء مع الحادية عشر ليلا وامتدّ إلى الثالثة صباحا.وضع حكّام إسرائيل كلّ ثقلهم لابلاغ بشير جميّل مطلبا أساسيّا وعاجلا فكان ملخّص مطلبهم كما جاء عن«كابليون»ما يلي :«بعد أن دعمناك وأوصلناك إلى سدّة الحكم نريد منك فورا معاهدة سلم بين لبنان وإسرائيل».
لم يعارض بشير جميّل المطلب كما ذكره في حديثه الصحفي إلى مجلّة التّايم « TIME » الأمريكيّة ليلة اِغتياله لكنّه طلب منهم إمهاله بعض الوقت حتّى تهدأ الأوضاع وتستتبّ الأمور لكي لا يفهم أنّ المعاهدة كانت قرارا إسرائيليّا.
الجانب الإسرائيلي كانوا متخوّفين فلم يبق لهم بعد إفلات القادة السياسيين والعسكريين الفلسطينيين وقدومهم إلى تونس، إلاّ التأكّد من نتيجة سياسيّة ترضيهم خاصّة أنّ«بيغن»في خطابه يوم 7 جويلية في إحدى ساحات تل أبيب أمام مائتين وخمسين ألف من أنصاره وعدهم أنّه سيبرم معاهدة سلم مع لبنان قبل موفّى سنة 1982. هذا هو السّبب الأصلي للخلاف بين بشير جميّل المتخوّف من الرأي العام اللبناني والعربي من مجرّد الوعد بإبرام معاهدة السلم والقادة الإسرائيليين المتخوّفين من عدم إبرام المعاهدة وتهكّم اليسار عمّا فعلوا بغزوهم للبنان، وهنا نرى كيف تورّط كلّ طرف من جهته.
في منطق القادة الإسرائيليين ما دام بشير جميّل لم يلبّ طلبهم فهو لم يعد حليفهم وهذا ما أراده لنفسه. وكانت النتيجة حتمية الانتقام منه. بعد أن أعدّوا العدّة عسكريّا اِلتقى«شارون»مع«بشير جميّل»يوم 12 سبتمبر 1982 في محاولة أخيرة لاستدراجه إلى الإعلان عن معاهدة سلام. لكنّ الرئيس اللبناني رفض الإفصاح عن أيّ تاريخ لهاته المعاهدة تفاديا أن تنشره وسائل الإعلام الإسرائيليّة والحليفة لها. ومن الغد ذكر للوزير الأوّل صائب سلام الضغوطات الإسرائيليّة المسلّطة عليه وأعادها في اليوم نفسه في حوار صحفي لرئيس تحرير جريدة L'ORIENT LE JOUR.
هكذا قضى على نفسه بنفسه منذ أن تحالف مع الكيان الصهيوني وكان يعتقد أنّ الصهاينة سيقبلون بنصف حلولهم. في يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 1982 على الساعة الرابعة بعد الزوال اِهتزّت بيروت بدوّ اِنفجار في الطابق الثاني لمبنى الكتائب هلك إثره بشير جميّل و25 من أعضائه. وكان الانفجار متحكّم فيه عن بعد بواسطة آلة إلكترونيّة من صنع ياباني لا يملكه في المنطقة إلاّ الإسرائيليّون.
رغم كلّ هاته الدّلائل القاطعة اِتّهم الإعلام الغربي الفلسطينيين. ويوم 15 سبتمبر 1982 نزلت قوّات هامّة إسرائيليّة بمطار بيروت وتمّت عديد اللّقاءات بين يومي 15 و16 سبتمبر 1982 بين الجيش الإسرائيلي وقادة حزب الكتائب الذين أعلموا قوّاتهم الخاصّة بأنّ العمليّة لابدّ أن تكون انتقاميّة... فحدث ما حدث...