كتبت قبل الانتخابات في هذا الركن، وتحت نفس العنوان قائلا: كتب علينا أن نتفاءل، وأن نؤمن بأن المستقبل خير من اليوم، وألف خير من سنوات الطاعون الأسود الذي جثم على صدور المواطنين، وكتم أنفاسهم، ونهب ما فوق الأرض، وما تحتها، وأضفت مبادرا : إن أوضاع البلاد قد برهنت بوضوح أنه لا بديل لنا عن التوافق لترسوا السفينة بشاطئ السلامة، ولكن التوافق يحتاج إلى جهد، وإلى مرونة سياسية، ويحتاج بالخصوص إلى أخلاق معينة في التعامل بين القوى السياسية. ولما تمت الانتخابات بسلام تنفس المواطنون الصعداء، وأملوا أن تلقي السفينة المترنحة مجاديفها بشاطئ السلامة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. حلم الناس أن تقدم بلادهم نموذجا يحتذى في مجال الانتقال الديمقراطي، كما قدمت مثالا رائعا للثورات العربية السلمية، وأوحت إليها ببرنامج حداثي مستقبلي لخصته في كلمتين عميقتين : الحرية والكرامة، وقد تطلعت أن تنكب القوى السياسية التي صدعت بها صناديق الاقتراع يوم الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي على الشروع في تنفيذ هذا البرنامج، ولكن سرعان ما بدأت تتضاءل الآمال، وتتساقط الأحلام، إذ انكشفت الرغبة في تسخير أجهزة الدولة خدمة لأهداف لا علاقة لها بأهداف الثورة، وقد تدحرج الخطاب السياسي نحومستنقع الشعارات والمهاترات، وسيطرت عليه مفاهيم ماضوية لا علاقة لها بمشروع الدولة المدنية الديمقراطية.
وهكذا بدأ القلق يسيطر على الناس لما انكشف اللب، وسقط القناع، وتبلورت ملامح المشروع المستقبلي الجديد، وهومشروع شمولي تغذيه رؤية ماضوية لا علاقة لها بالزمن الراهن، وأخطر ما فيها أنها تتخفى وراء الإسلام، والإسلام العظيم براء منها. إن الشعب التونسي لم ولن يقبل من يزايد عليه في إسلامه، وفي اعتزازه العميق بهويته العربية الاسلامية. ما العمل والحالة هذه، وقد بلغ السيل الزبى ؟ قلت في مطلع هذا النص : كتب علينا أن نتفاءل، إن الأمل الوحيد يتمثل اليوم في التمسك بمبدأ الوفاق، مذكرا في هذا الصدد بعنوان صدر في هذه «الإنارة» : هذا أو الطوفان
من المكابر الذي يستطيع أن ينكر اليوم أن أمواج الطوفان قد بدأت تطلاطم على ضفاف البحيرة يوم الجمعة الماضي ؟ خف الفزع لما سمع الناس أصوات العقل من داخل الأجهزة المسؤولة، ولكن الخوف تواصل، ذلك أن أصوات العقلاء قد تزامنت مع أصوات أخرى فضحت غباء سياسيا مستفحلا.
القضية المطروحة اليوم بعد يوم الجمعة الأسود : لماذا التوافق، وكيف؟ تتمثل خطة التوافق التي تطالب بها القوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني : أولا – في إرجاع هيبة الدولة عن طريق تطبيق القانون، وهي الخطوة الأولى لإعادة الشعور بالأمن لدى المواطنين. ثانيا – في اللقاء حول مائدة حوار وطني لضبط المراحل القادمة للخروج بأسرع وقت ممكن من «الوضع المؤقت» إلى الحالة الطبيعية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع، وعندئذ فقط يمكن الانكباب على معالجة الملفات الكبرى.
ثالثا – لا بد قبل هذا وذاك من السموبالخطاب السياسي، ونبذ لغة الاستعلاء تحت عنوان الشرعية الانتخابية، وهي شرعية لا يطعن فيها أحد، ولكنها تثير الريبة حين تتحول إلى إسطوانة مشروخة لإخفاء الفشل هنا وهناك.
الشرعية الأسمى والأنبل هي التفاف المواطنين، وتأييدهم للسلطة السياسية القائمة حين يشعرون بسعيها الصادق والجاد في عالم الممارسة اليومية من أجل تحقيق الأمن، وفرض هيبة الدولة.