منذ أمد بعيد، كان المؤرخون في بلادنا، في غياب العديد من الوثائق وندرتها أو لاستكمالها، حتى لا تكون لديهم نظرة الإدارة المركزية، متشوفين إلى معرفة العديد من تفاصيل مجريات الأحداث عن طريق شهود عيان ساهموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في نحت تلك الأحداث. لم يتعود التونسيون، على عكس ما هو موجود في المشرق العربي، على الإدلاء بشهاداتهم أو كتابة مذكراتهم. ولكن منذ الثمانينات بدأت تظهر بين الحين والآخر بعض المحاولات النادرة، لكي نجد أنفسنا الآن وخاصة منذ جانفي 2011 أمام زخم لا يستهان به من المذكرات المتفاوتة القيمة، بحكم أنّ كلّ مذكرات هي محاولة من صاحبها لتلميع صورته والظهور في موقف بطولي، وتبرير المواقف الشخصية أو الفكرية والسياسية.
ومن بين المذكرات إن صحّ التعبير، كتاب محمّد الصياح الصادر مؤخرا عن دار سراس-للنشر في سلسلة مقاربات بعنوان «الفاعل والشاهد». وهذه المذكرات هي عبارة عن حوار مطوّل استغرق قرابة ال45 ساعة أجراه مع محمد الصياح أستاذ علم الاجتماع مولدي الأحمر حاول فيها المدير الأسبق للحزب الاشتراكي الدستوري أن يرسم لوحة عن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وعن جهوده الرامية إلى تأسيس دولة عصرية تصبو إلى التقدّم، وهو ما نجح فيه نسبيا بمراهنته على المواطن التونسي، وذلك بتحرير المرأة وإجبارية التعليم بصفة ديمقراطية وتعميم الصحة العمومية، مما ساعد على نشر النظافة والقضاء على العديد من الأمراض المزمنة مثل مرض السلّ.
لقد نجح محمّد الصياح في رسم معالم السياسة البورقيبية، وهو المقرب كثيرا، بحكم إدارته للحزب الاشتراكي الدستوري مدّة طويلة وفي فترات عصيبة، من الرئيس الراحل، ممّا جعله يطنب في شرح آليات الحزب، المرتكزة على ضرورة إقامة الوحدة الوطنية والمحافظة عليها، مع قبول وجود تيارات فكرية وسياسية في صلب الحزب دون المساس بوحدة الحزب ومساره، ذلك لأنّ الهاجس الأساسي للزعيم بورقيبة هو تجنيب الحزب والدولة والبلاد برمّتها من خطر الانقسام واستيقاظ «المارد البربري» وعودة القبلية والعروشية. لقد أطنب محمّد الصياح في توضيح هذا الجانب التنظيمي للحزب، مبررا في الوقت نفسه قرار بورقيبة في السبعينات من القرن الماضي باختيار أعضاء الديوان السياسي عوضا عن انتخابهم من قبل نواب المؤتمر، حتى يكون فريق العمل الذي سيعمل معه متناغما مع أهدافه حفاظا على الهاجس الذي يؤرقه.
ولكن محمّد الصياح، إن وجد مبررا لذلك، فإنه لم يوضح ما هي الدوافع الأساسية لذلك، خاصة مع ظهور تيار ليبرالي في صلب الحزب يدعو إلى المسار الديمقراطي، مكتفيا بالتدليل بأنّ الرئيس بورقيبة كان مهووسا بفكرة الوحدة الوطنية، والحال أنه على عكس الستينات، تميزت السبعينات من القرن الماضي ببداية استفحال الجهويات التي أراد محمد الصياح دحضها على أساس أنّ بورقيبة لا يعوّل إلا على الكفاءات وأنّ مسألة الجهويات هي نوع من الادعاءات لا أكثر ولا اقلّ روج لها بعض المقربين للرئيس في أواخر أيام حكمه. ولكنه تغافل أيضا عن ذكر دوافع بورقيبة في مؤتمر المنستير إلى قلب قائمة المنتخبين في اللجنة المركزية حتى يصير محمد الصياح الأوّل في القائمة عوض أن يظل في المرتبة الأخيرة. الكلّ يعرف أنّ هذه الجهويات لعبت دورا كبيرا في ذهن بورقيبة، من ذلك أنّه عندما عيّن بن علي وزيرا أوّل أشاروا إليه بأنّ هذا الأخير ليس من المنستير فكانت إجابته بأنّ زين العابدين ولدته أمّه في زاوية سيدي عامر، تبركا بهذا الوليّ، وأنّ والده سجله في حمام سوسة.
تدفعنا هذه المسألة إلى التساؤل عن قضية دفع بورقيبة إلى قبول فكرة الرئاسة مدى الحياة. وهي المسالة التي لم يتطرق إليها محمّد الصياح. فلم يفسر لنا دوافعها وخلفياتها والتي انطلاقا منها أصبح الدستور مثل قميص عثمان يُقاس على مقاس المنتصب على دفة السلطة. لا نعيب على محمّد الصياح عدم تطرقه إلى هذه المسألة الهامة في وضع مؤسسات الجمهورية، وإنما نعيب على محاوره الذي كان همّه الوحيد التطرق إلى المسائل الاجتماعية وليس إلى الجوانب التاريخية، خاصة وأنّ محمّد الصياح أراد ان يكون مؤرخا لبورقيبة والحزب فقط، وليس للحركة الوطنية بكامل جوانبها، مثلما أشرنا إلى ذلك سنة 1984 واصفين إياه بالمبتدئ في هذا الميدان Néophyte. ولم يتأخر محمّد الصياح في هذا الحوار من توجيه أصبع الاتهام إلى المعارضة التي رأى فيها أنها معارضة لمجرد أحقاد شخصية وأنّ الحزب الشيوعي على سبيل المثال، رغم وطنية منخرطيه، مرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي ومقيّد آنذاك بقرارات الكومنترن وبالتالي بقرارات موسكو.
وهذا ما جعل المعارضة ضعيفة وغير ملتصقة بالواقع الذي خبره بورقيبة وأعضاده، ومن بينهم الصياح، عن طريق الاتصال المباشر. كما انتقد محمّد الصياح الحركة الطلابية في السبعينات من القرن الماضي، مبديا احترازا حول قدرتهم على التفكير السياسي السليم وأنّ سنهم يجعلهم «غير مطلعين على الواقع»، محمّلا مجموعة «آفاق» مسؤولية تأزم العلاقة مع الدولة والحزب في نفس الوقت. ولكنه تغافل عن ذكر استعماله للتوجهات الإسلامية لضرب اليسار، وهو ما كان رائجا آنذاك. وما إجابة محمد الصياح التي اعتبرت من الأول أنّه لا يُرجى خيرا في هذا الاتجاه إلا إجابة سياسية ظرفية. وإلا في أي إطار يندرج لقاء محمّد الصياح مع حسن الغضبان وقد ثمّن خطابته وصلابة مواقفه وحديثه عن عبد الفتاح مورر. ربما اندرج ذلك في محاولة لاستقطابهما قبل أن يستفحل أمر هذا التيار؟ هل كان ذلك ضمن خطة لإظهار الانكماش والتحجر الفكري لهذا الاتجاه الرافض أساسا لأيّ عملية انتخابية باعتبار أنّه يعتمد على فكرة الإمارة. أسئلة عديدة تستوجب الإجابة. إنّ التطرق إلى هذا الجانب وخاصة علاقة الدين بالدولة، جعلت محمّد الصياح يوضح جوانب من مواقف بورقيبة حول هذه المسألة، معتبرا أنّ هذا الأخير عمل على تطوير الفكر الديني باعتبار أنّ الإسلام عقيدة ولكن المؤسسات تتفاعل مع الوقت وأنّ اللائكية لديه هي حرية الفكر، التي يدعو إليها الدين الحنيف، وليس الفصل بين الدولة والدين على المنوال الفرنسي. ولذلك فإنّ مجلة الأحوال الشخصية ومسألة منع تعدد الزوجات مستوحاة من القرآن الكريم.
وفي هذا الحوار تطرق محمّد الصياح إلى مسألة الميليشيا التي وقع استعمالها إبان أحداث جانفي 1978 داحضا هذه الدعاية التي لفقها ضدّه خصومه السياسيين من المعارضة أو من الحزب، والتي لا تستند، حسب قوله، إلى حجة، متهما البعض من اتحاد الشغل في صفاقس بالتهجم على المقاهي في رمضان. ولكنه في موقع آخر يعترف بوجود «لجان رعاية» وقع استعمالها خلال المحنة اليوسفية، وكأنّ هذه اللجان اختفت بقدرة قادر فيما بعد ولم تبق قائمة الذات في سنة 1978 أو فيما بعد. وإلا بماذا نفسر تواجد هياكل تابعة للحزب مثل المنظمات الشبابية المتعدّدة.
هذا الحوار الذي تناول العديد من القضايا، حيث يوجه محمّد الصياح أحيانا النقد اللاذع لزميله الطاهر بلخوجة، ولكنه تغافل عن الكثير من الأحداث والمستجدات التي عاشتها البلاد خلال الفترة الطويلة التي ساهم فيها في صلب الدولة والحزب. فلم يذكر مثلا أحداث قفصة سنة 1980، ولم يتناول كيف وجد المنظومة التعليمية التي أفسدها محمّد مزالي، رغم قصر فترة إشرافه على وزارة التربية، كما لم يتطرق، مثلما قلنا، إلى مسألة الرئاسة مدى الحياة بدوافعها ونتائجها، ولم يتناول أيضا «الانقلاب الصحي» الذي قام بها الرئيس الفار. قد يعود الأمر إلى نوعية الأسئلة التي طرحها المولدي الأحمر أو ربما لأنّ هذا الحوار تمّ انجازه قبل 14 جانفي 2011.
على كلّ، هذا الحوار-المذكرات، رغم أهميتها لفهم آليات الحكم زمن بورقيبة، نخال فيها محمّد صياح كشاهد أكثر منه كفاعل، وكأنها مذكرات الحبيب بورقيبة أكثر منها مذكرات محمّد الصياح الذي يقدم فيها نفسه مثل الحمل الوديع، غير المسؤول ولو في الظلّ عن بعض المجريات. وإذن، فهي مذكرات منقوصة تجعلنا نأمل المزيد من التوضيحات التاريخية.