كثيرا ما يعود بي الحنين الى دراسات قيمة ومقالات رشيقة واشعار جيدة كنت اقتطعتها مما جادت به الصحف والمجلات، ومن بينها في ما له صلة بخواطر اليوم بحث قيم للأخ المناضل عبد الله بشير عنوانه (بورقيبة كان يعشق الشعر ويتذوق الأدب) وهي جوانب يعرفها جيدا المناضلون الدستوريون عن محرر تونس من نير الاستعمار ورائد بناء صرح الدولة الحديثة ذي الكف النظيف والرأي الحصيف، ومن حسن الحظ أن شريحة هامة من شباب تونس اعادت اكتشاف المجاهد الأكبر بعد رحيل بن علي، ووقف خاصة على المقارنات الواضحة بينهما...وبضدها تتميز الاشياء. وهنا تعود بي الذاكرة الى سنوات 19791983 حين تقلدت خطة معتمد في كل من قصر هلال وزرمدين، ثم جمال ومكنين بالنيابة وما غنمته من الصداقة الوطيدة مع المناضلين الدستوريين الأوفياء الشرفاء في كامل ربوع ولاية المنستير.
في تلك السنوات، وإلى جانب مسؤولياتي الادارية انتجت للإذاعة الجهوية هناك برنامجا اذاعيا أسبوعيا بعنوان : (مع بورقيبة الانسان) تواصل بثه على مدى 74 حلقة، وعسى أن أتمكن من نشر مادته في كتاب، حتى يتاح لشبابنا بالخصوص مزيد الغوص في خصائص وخصال بورقيبة الانسان...بعيدا عن الشأن السياسي. بورقيبة يتذكر : وفعلا كان للمجاهد الأكبر عشق خاص للشعر العربي وولع بالأدب قديمه وحديثه والسؤال هنا : من أين له ذلك ومن أي نبع ارتوى؟ الجواب في كتاب : «الحبيب بورقيبة...حياتي، آرائي، جهادي» المتضمن لمحاضرات كان القاها أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار حول تاريخ الحركة الوطنية.
وفي أحداها (في 19101973) يقول : (...ولقد كنا نتلقى الدروس في الصادقية من أساتذة ومشائخ الجامعة الزيتونية وكنت مغرما بتتبعها واخذها عنهم ومن بينهم الشيخ محمد بن القاضي والشيخ حميدة النيفر وابنه الشيخ البشير والاستاذ محمد الاصرم والشيخ عبد العزيز جعيط الذي دعانا الى حفظ لامية السموأل ومطلعها : اذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه / فكل رداء يرتديه جميل وهي أبيات لا يمكن أن انساها، ذلك أني احفظ الشيء الكثير من المعلقات السبع ومنها معلقة عمرو بن كلثوم (ألاهبي) ومعلقة الشنفرى الذي هو من أكبر عدائي العرب كالقمودي بالنسبة الينا اليوم ولاميته (أقيموا بني أمن)...» نكتفي بهذا الجزء من شهادة بورقيبة شخصيا، لنضيف إلى ذلك ما أورده أخونا المناضل عبد الله بشير في بحثه القيم وهو المتعلق باستشهاد بورقيبة في خطبه بنتف من قصائد شعراء آخرين كقول المتنبي : لو لم تكوني بنت أكرم والد / لكان أباك الضخم كونك لي أما وقول أبي فراس الحمداني من قصيد أراك عصي الدمع : اذا الليل أضواني بسطت يد الهوي / وأذرفت دمعا من خلائقه الكبر.
الكفاح الوطني في شعر الملحمة : أما ثوابت الفكر البورقيبي ومرتكزات النضال الحزبي فهي المتمثلة في التصدي لمرامي وخطط الرجس الاستعماري البغيض وأولها العمل على محق الشخصية التونسية وإذابتها في (فرنسا ما وراء البحار) ومحاولات التجنيس والتنصير وثانيها الاستيلاء على ثروات البلاد وخيراتها الفلاحية والمنجمية وثالثها تثبيت الحضور العسكري وقهر البوليس والجندرمة ورابعها فرض كل مظاهرالاستعمار ومحاولة تأبيده وخامسها ترسيخ ثالوث الفقر والجهل والمرض.
وسواء في خطبه ابان المعركة الحاسمة أو محاضراته في معهد الصحافة وعلوم الاخبار أوفي بياناته الاسبوعية بعد الاستقلال أسهب المجاهد الأكبر في توعية الأمة بكل أهداف ذلك الاخطبوط الاستعماري الرهيب وفي باب الذود عن الشخصية العربية والاسلامية للشعب، نجد رجع الصدى فيما قاله كبار الشعراء سواء منهم الضالعون في الفصحى أو في الأدب الشعبي بحرصهم جميعا على تخليد تلك الثوابت البورقيبية.
من مضامين الشعر الشعبي : كان الشاعر محمد ساسي الصغير من أبرز الشعراء الذين ربطوا بوضوح تام بين كفاح الحزب الدستوري والذود عن هوية تونس والتونسيين الاسلامية وقد اشتهر بالبيت الأول من قصيد له معروف كان استشهد به صديقنا الاستاذ عبد الله بشير في بحثه المشار اليه كما يلي : اذا كانك مسلم غيور شارك في حزب الدستور
ولي فيه ملاحظتان الأولى انعدام الصلة بين تفعيلات الشعر الفصيح وموازين الشعر الشعبي كما أوضح ذلك الأديب محمد المرزوقي في كتابه (الأدب الشعبي في تونس) ومنه ما يلي: «إن هذه البحور الخليلية لا يمكن ان تنطبق على الشعر الشعبي وهذا راجع إلى البناء الخاص بهذه البحور التي تشتمل على أسباب وأوتاد وفواصل. أما اللهجة التونسية الدارجة فلا تشتمل الا على الأسباب والأوتاد فقط، وأيضا لاختلاف بين لهجة الحواضر ولهجة البوادي» (انتهى) ثانيا : من أوجه الاختلاف بين الحضري والبدوي حرص أبناء المدن في لهجتهم الدارجة على قولهم «إذا» ومثال ذلك: (اذا كانك قاري وفهيم.. قل لي على سورة من غير ميم). وهي سورة الكوثر. في حين يستعمل اخوتنا في الارياف «لا» عوضا عن «اذا» هكذا: (لا كأنك قاري وفهيم.. انبيني على سورة بلا ميم) لذلك فالراجح عندي ان الشاعر قال البيت المذكور هكذا: (لا كانك مسلم غيور، شارك في حزب الدستور..) بدلا من «اذا كانك» وهذا ما يستقيم معه الوزن. فجريانه على السائد من لهجة البادية فيه صنعة واثبات للخصوصية المحلية.
وقد اختار الشاعر هنا أحد موازين (الڤسيم) وهو البسيط كقولهم: (لا تعزّر من كان عزيز.. دار عليه الدهر وذل) (لا يحمل كثْر تنڤيز.. يعمل في قلبه ينسل) (عزّ نفسك كيف الإبريز.. كون عاتي راجل فحل) فقال محمد ساسي الصغير: (لا كانك مسلم غيور.. شارك في حزب الدستور) وهكذا حفظتها منذ أيام الشباب (لا كانك..) أيام كنت أجوب الجنوب التونسي منتجا للبرنامج الاذاعي (اعرف بلادك) في أوائل الستينات من القرن الماضي. بقي على أن أتثبّت في أول زيارة لي قادمة الى المنستير في كيفية نسخها ضمن هذا القصيد في الرخامية العملاقة بروضة آل بورقيبة. فإن كانت: (لا كانك) فذلك كذلك.
وأصل الآن الى ما أورده اخونا المناضل عبد ا& بشير في بحثه وهو قول الشاعر الشعبي صُوّة العيوني: (ا& ينصرك يا حبيب يا بورقيبة.. يا زعيم تونس يا كبير الهيبة. وهو على وزن البورجيلة الذي استعمله الشاعر احمد بن موسى في: (ليّعتني بشد الهوى يا دوجة.. وخلّيت كبدي معطبة ممروجة) ولما تحولت الى أغنية لحنها المرحوم خميس ترنان تم تعويض (معطبة) ب(واجية) دون ان يختل الوزن، وهي ألطف من معطبة والمعنى واحد. غير ان الوزن يختل اذا قلنا ا& ينصرك يا حبيب يا بورقيبة ف(يا) الثانية زائدة ومُخلّة والصواب اذا هو: ا& ينصرك يا حبيب بورقيبة. ومثلها تماما: ليّعتني بشد الهوى يا دوجة. وكذلك ما قالته فايزة بنت الحسّاني من قصر هلال حين أخذت الشطر من بيت صوّة العيوني هكذا : (يا حبيب بورقيبة) لا (يا حبيب با بورقيبة) في قولها: (ا& ينصرك يا حبيب بورقيبة.. نشالله في المنفى ما تطوّل غيبة).
هذا ما أ ردت تصويبه تأسيا بالآية 88 من سورة هود: {إن أريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا با& عليه توكلت واليه أنيب} همسة أخوة ووفاء قبل الانتهاء: تحية صادقة الى الأخ عبد ا& بشير وبقية الأحبة في المنستير مع شوقي اليهم، رجعا لصدى النضال المشترك في ذلك الزمن الجميل على رأي لغة موليار le vieux beau temps.