...وإن كنا نعرف أن أستاذنا جميل الجودي لا يحب البكاء فإننا سنبكيه بالرغم عن أنفسنا..«دجُو» سيترك فراغا مقيتا لم نتهيأ له البتة...فهناك وجوه نعرفها ويبدو لنا أنها لا تموت...أو ربما نتخيّل أن قوة شخصيتها تجعلها في مأمن من الموت تماما كالشخصيات الأسطورية...كآخيل الذي لا يموت إلا إذا أصيب في قدمه...جميل الجودي كبيرنا الذي علمنا المسرح هل بإمكان الذاكرة أن تغفو عنه؟ هل نحن قادرون على نسيانه؟ عندما كنا في سنوات الدراسة...في نهاية الستينات بمركز الفن المسرحي عين جميل أستاذا تطبيقيا في مادة التمثيل والإخراج...كنا فخورين بأننا نتعلم عنه...فقد رأيناه الى جانب عملاق المسرح علي بن عياد سواء في «مجنون ليلى» التي أخرجها شريف خزندار أو في «كاليغولا» وكان رأسه محلوقا ولم يكن حلق الرأس موضة في تلك الفترة إلا أن بعض الرؤوس قد فرضت شكلها لأنها توحي برجولة مفرطة...فعندما تنظر إلى جميل الجودي تهابه...تماما كالفراعنة اللذين تمثلهم الممثل الأمريكي الشهير «يول برينر» أو الشخصيات غير الإعتياديّة التي قام بأدائها أحد رموز السينما القديمة «إيريك فون ستروهايم» أو شخصية «تاراس بولبا» وآخرهم «كوجاك» الذي عرف بالممثل «تاللي سافلاس» حتى أصبح حلق الرؤوس في أيامنا هذه موضة...
جميل الجودي كان أستاذا ممتازا فإلى جانب منهجه في تعليم أداء الممثل الذي يقوم على المرجعية واستحضار مواقف من الحياة أو تخيل الموقف حسب بناء الشخصية وتموقعها في الزمان والمكان فإنه كان يمقت الأداء القائم على محاكاة المخرج...فقد كان دارجا آنذاك أن المخرجين يفرضون على الممثل تقليد حركاتهم وتعبيراتهم الأمر الذي جعل عددا من الممثلين نسخة طبق الأصل لمخرجيهم... وعندما انفصل الجودي عن فرقة مدينة تونس وعيّن مديرا بفرقة صفاقس...وهو أول مدير أنجز بها أعمالا بغضّ النظر عن المدير الأول «أكرم الدباغ» الذي لم ينجز بها عملا يذكر... كانت مسرحياته من النوع الشعبي الراقي...فجميل له إدراك خاص بما يرغب فيه المواطن فكان يوفق بين رغبات الشعب وبين لمساته الفنية المدروسة...«الشيخ بكار» عن «طرطوف» موليار...
«المفتش العام» عن «ريفزور» غوغول... و«رابح زميم الحومة» عن «حيل سكابان» لموليار..وحتى «صلاح الدين الأيوبي» بالفصحى إضافة لمسرحية «قريتي» لعبد اللطيف الحمروني التي أنجزها مع طلبة مركز الفن المسرحي ونخبة من الممثلين الكبار في تلك الفترة...ثم أعاد صياغتها مع فرقة صفاقس وقدمت بنجاح إلى الجاليات العربية بفرنسا...كل هذه الأعمال قد ساهمت في ترسيخ فكرة تأسيس فرق جهوية بفضل ذلك النجاح...جميل الجودي برهن على أن العربية الفصحى يمكن ترويضها وتطويعها لتصبح مفهومة من أي مواطن ومسرحية «الطوفان» التي افتتح بها مهرجان الحمامات سنة 1969 وهي من تأليف الكاتبين مصطفى الفارسي والتيجاني زليلة قد نالت اعجابا كبيرا وكان مفعولها على الوزير أحمد بن صالح آنذاك وهو ينفذ فلسفة التعاضد وقد وجهها الجودي لنقد الممارسات السلبية في هذا النظام ... كان مفعولها دافعا لجدل عمر فترة طويلة وكان الوزير يذكرها كمثال في عديد المناسبات... وأقول أنه منذ تلك الفترة التي ظهرت فيها أعمال المسرح الجامعي وأعمال جميل الجودي قد أصبح المسرح التونسي محط أنظار السلطة إذ اقترب أكثر من مشاغل الناس بعد أن سادت أعمال «الفودفيل والبولفار».
جميل الجودي كان مثقفا جامعا... يأخذ من كل شيء بطرف كما يقال فهو صديق للشعراء والأدباء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والسينمائيين لذلك اكتسب ثقافة عامة وهو صاحب ذوق رفيع ونظرة راقية للأشياء ومتعمقة وبعيدة عن السطحية.
كما أنه فنان متواضع وذو حسّ شعبي عفوي ولا يصرخ على السطوح بأنه فنان كبير ولا مثيل له في حلقات الإبداع...فالناس يحكمون على أعماله بتلقائية كبيرة... فهو يلقنك درسا فيما معناه أن الفنان مهما قدم من أعمال فإنه غير قادر على إقناع الجميع لذلك فالتواضع من شيم المبدعين الحقيقيين ولن يفرض الفنان إبداعه بالقوة والعناد...
جميل الجودي فنان كبير...أعماله هي التي ترجمت عن مقدرته...رحم الله «كينغ خميّس» كما يحلو لأصدقائه أن يسموه...ورزقنا جميعا جميل الصبر والسلوان. { إنا لله وإنا إليه راجعون}