في لحظة ما قرر الحراك الشعبي عبر شعاره التاريخي اللافت الشعب يريد إسقاط النظام تقرير مصير البلاد ، دونما تأطير من أحزاب او فاعلين اجتماعيين أسقطت التحركات والاحتجاجات الشعبية النظام السابق وفتحت الطريق أمام تشكل نظام جديد. هذا الأمر كان وما يزال محل إجماع من كل المتابعين وحتى من النخب والأحزاب نفسها التي أقرت في أكثر من مناسبة انها جارت فوران الشارع وتحركات الشباب والفئات المحرومة التي خرجت رفضا لواقع معيشي كان يتردى من يوم إلى آخر ووسط تغوّل لأركان النظام وتوسع نفوذ العائلة الحاكمة وتكاثر مظاهر التفاوت الجهوي والفقر وتناقص فرص الشغل والحياة الكريمة.
وعلى الرغم من تواصل غياب المعلومة الصحيحة حول حقيقة ما جرى يوم 14 جانفي 2011 داخل أجهزة الدولة وفي ما بينها وما قد تكون فرضته قوى إقليمية أو دولية من خيارات واشتراطات ، وعلى الرغم من المراحل التي تم قطعها لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ولتحقيق انتقال سلمي للسلطة فإنّ الأمور ما تزال محكومة إلى الكثير من الضبابية والغموض حول القدرة على الوصول إلى كتابة الدستور الجديد وبلوغ مرحلة الحكم الدائم المستقرة دونما مزيد من الأضرار والخسائر وإضاعة الوقت. لقد رهن الشعب، بعد كم هائل من التضحيات والنضالات على مرّ عقود، مصيره ومصير البلاد إلى نخبة من الفاعلين السياسيين تحكُمهم خلفيات إيديولوجية ومطامح سياسية ومصالح شخصية وفئوية وان كانت بطبيعتها متنوّعة فهي مُتضاربة وعلى غاية كبيرة من التشابك والتجاذب والصراع المعلن منه والخفي ، خلفيات ومطامح ومصالح تزداد حدّة من يوم إلى آخر وتُوجد لدى قطاعات واسعة من الرأي العام مخاوف حقيقيّة من المستقبل.
إنّ غلبة التجاذب السياسي والصراع الأيديولوجي على أعمال النخب والأحزاب وتحركاتهم أضاع الكثير من الوقت على بلوغ الاستقرار المطلوب وفتح الباب أمام المزيد من تشتيت الجهود والتوجه الجماعي المطلوب لتحقيق ما طالبت به الفئات المنتفضة على وضعها الاجتماعي والمعيشي الصعب.
الأحزاب والنخب تتكلم باسم الشعب وعلى قاعدة احترام خياره الانتخابي وتتحدّث بإطناب عن الشرعيّة واحترام القانون والحرص على الإصلاح ولكن الواقع يُقدّم صورة أخرى لأفعال بعيدة عن الخطابات والتصريحات.
لقد أصبح اهتمام السياسيين منصبا على تتبّع العورات وتصيّد العثرات ونشر الغسيل الوسخ لهذا الخصم أو ذاك وتزايد التوظيف السياسي ، من السلطة والمعارضة، لقضايا ومشاغل الناس وارتهنت كلّ البلاد ومسارها في الإصلاح والانتقال الديمقراطي إلى أهواء فيها الكثير من النرجسيّة والذاتيّة والنظرات الضيّقة وكثرة المزايدات والحسابات وحتّى الحوار والبحث عن الوفاق الوطني أصبح هدفه لدى الكثيرين مخلبا للإساءة ومحاولة الإطاحة بالآخرين وكسب نقاط انتخابيّة لا غير.