بات من تحصيل الحاصل أن نخب البلاد وأحزابها أضحت عاجزة عن تحقيق توافق حقيقي يخرج البلاد الى أفق يجسّد تطلعات الثورة، شيئا فشيئا تتكدّس الاتهامات وتتكثف المزالق والأزمات في علاقة بالتعاطي مع الملف السياسي بمختلف تفرّعاته وجزئياته، وعلى «أنقاض» دماء الشهداء وتضحيات الشباب والعاطلين عن العمل والمهمشين ركبت النخب والأحزاب بطمّ طميمها وباختلاف تلويناتها أحلام الشعب في العدالة والحرية والديمقراطية والقطع مع خمسة عقود من التهميش والاقصاء والسياسات الفردية الظالمة. المتابع للتعاطي مع الشأن السياسي يلحظ دونما شكّ تهاوي الطبقة السياسية والنخب في اتجاه «نهش» مكسب الثورة، المجيد والخالد، الكل دون استثناء، يسعى الى اتخاذ موقع قيادي وتسيطر اولويات الاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي على شاكلة «المغنم» الحزبي او الفردي الضيّق. دكتاتورية وأهواء فردية وأنت تستمع الى آراء ومقاربات بعض الخبراء والمختصين في العلوم السياسية او القانون الدستوري، والذين قفزوا فجأة الى شاشات التلفاز وملأوا صفحات الجرائد وأنت تطالع بيانات الأحزاب وتصريحات قياداتها تشتمّ «رائحة» النهش وأهواء الذات الضيّقة، على نحو أعاد الى الأذهان معطى الدكتاتورية المغلفة بالبحث عن الوحدة الوطنية وصيانة الثورة والانتصار للإرادة الشعبية. البعض وعن غير وجه حق، ألحق نفسه بالحكم وصنّف «مخالفيه» ممن رفضوا الالتحاق بالحكومة المؤقتة أو تم اقصاؤهم منها، صنّفهم على هواه، ضمن المعارضة. هذا «السلوك» الانفرادي والمطبوع بهامش، واسع للمناورة السياسية والاعداد للمرحلة المقبلة والقفز على خصوصيات مرحلة ما بعد الثورة، وهي مرحلة انتقالية من المفروض ان يكون الجميع فيها سواسية في المعطى السياسي، اذ لا منطق ولا مشروعية لتكريس ثنائية الحكم والمعارضة قبل عملية انتخابية عامة تفرز عناصر المشهد السياسي والحزبي وترسم خريطة القوى وفق المناصرة الشعبية المستمدة من شرعية صندوق الاقتراع. وعلى الجهة المقابلة، اصطفّ الخارجون عن الحكم للدفاع عن مواقعهم وصيانة، لا الثورة، بل أدوارهم وهوامش تحركهم في الفترة المقبلة. تجاذب وصراع ومن اليسير اليوم، ان نلحظ احتدادا ما لواقع التجاذب بين طرفي الصراع السياسي حول صورة المشهد ما بعد الثورة، احتدادا بلغ درجة قصوى من الصدام وينذر بمشهد أكثر توتّرا مع اقتراب موعد 15 مارس الجاري، موعد انتهاء المدة الرئاسية المؤقتة للسيد فؤاد المبزع. وبمنطق ما قاد ثورة تونس، والتي أجمع كل المحللين على أنها ثورة قاعدية لم يقدها طرف سياسي ولم تنفذها إيديولوجية سياسية او فكرية بعينها كما لم تسيّرها كتيبة عسكرية او مراكز قوى أمنية أو مخابراتية، بذلك المنطق لا يحق لأحد من النخب او الأطراف السياسية الادعاء بامتلاك حقيقة التصوّرات القادرة على تأمين الاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في البلاد. إرادة سياسية ومخرج حقيقي ومن المتجه، في مثل هذه اللحظة المتميّزة بتمسّك بعض السياسيين بمقاعدهم ضمن الحكومة المؤقتة وانشداد الآخرين الى جبهة الرفض وإسقاط الحكومة المؤقتة فإن رئاسة الجمهورية المؤقتة في طريقها الى فعل جذّاب وتاريخي تعاطيا مع إرادة الوفاق الشامل وإيجاد علاج حقيقي وفعّال لحالة الاضطراب والتجاذب الحالية، مثلما تكرّس ذلك أساسا في التقدم بمشروع مرسوم يتعلق بإحداث الهيئة العليا لحماية الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، تقول الكواليس انه شهد دراسة معمّقة وفي اتجاهه الى التحقق قريبا، ومثلما تكرّس ايضا في اختيار السيد الباجي قائد السبسي لرئاسة الوزراء وهي الشخصية السياسية المحنّكة وصاحب التجربة الواسعة. ويرى عديدون ان امتلاك رئاسة الجمهورية المؤقتة ورئيس الوزراء الجديد لإرادة سياسية واضحة في التوفيق ولمّ الشمل عبر اقرار الهيئة المذكورة وإعلان حكومة لتصريف الاعمال، من التكنوقراط، ستمهّد الطريق سالكة لوقف حالة التجاذب وخفض التوتّر في الحياة السياسية وتوحيد جهود كل الأطراف في معالجة متطلبات الاصلاح السياسي وأولويات الانتقال الديمقراطي بعيدا عن كل أصناف النهش السياسي او المحاصصة السياسية الضيّقة. دون تلك الارادة السياسية الصارمة والواضحة قد لا يبدو المشهد السياسي الا في طريق المزيد من المناورة وربما الاستهتار السياسي والحزبي والنخبوي بثورة صنعها الشعب دون قيادة ودون توجيه من أحد.