من الواضح في هذه المجموعة القصصية أن الكاتب بوراوي سعيدانة حاول الاشتغال على الجانب الفني فلم يركن إلى أسلوب ثابت أو مدرسة محددة في القص ولم تستقر قصصه على شكل سردي واحد إذ سعى إلى تجربة أساليب مختلفة ونحت نصوص متنوعة الشكل ومتفاوتة الأسلوب فكانت نصوصه مزيجا بين الكتابة المتأثرة بالتراث وبخصائص الأشكال القصصية القديمة وبين الكتابة الحديثة التي تحاول تخطي البنية التقليدية للنص السردي وتبحث له عن صياغات مختلفة تغيب فيها الخطية التقليدية. فالكاتب قد استحضر بعض خصائص السرد العربي القديم ومنها اعتماد أسلوب السند والمتن الذي عرف خصوصا في النصوص التي صنفت ضمن جنس الخبر أو الكتابة الخبرية الأدبية بما فيها رواية الأحاديث والسير والنوادر وغيرها حيث تحضر ظاهرة السند والمتن التي عرف بها القص العربي القديم في قصص عديدة في مطالع القصص أو في مفاصلها من ذلك نسوق أمثلة:
* «قصة ورشة القص التي بدأها بالسند» روى لنا احد الفاسقين عن فاسق مثله او اقل منه قال.........................»ص9
* «قصة حديث الوشاية» التي بادر فيها بالقول: «حاورني زعيم الوشاة مرة قال...................»ص53
* «قصة الفيروس الطيب» التي استخدم فيها تقنية السند والمتن في مقاطعها الوسطى من ذلك:
«واصل أبو الرذائل حديثه عن أبي الفضائل قال:..................»ص81
أو «حدثني أبو النقائض وبالنيابة عنه زميله ابو الرذائل قال............»ص82
ويضيف في مقطع آخر: «حدثني أبو الفضائل في مستهل حديثه عن آداب التعامل واللباقة حديثا كان نقله عن أبي الرذائل اخبرني أن................»ص83
ثمة إذن استحضار لهذه التقنية ولكن الملاحظ في الأسانيد التي استخدمها الكاتب إنها خالية من التدقيق الذي عرفت به النصوص السردية القديمة من حيث نسب الراوي صاحب الحكاية الذي كان يبدو اسما حقيقيا وكانت ترافقه أحيانا سلسلة من العنعنات (عن فلان عن فلان) اقناعا للقارئ بصدق الحكاية بشكل واقعي أو ايهامي فجاءت الأسانيد مسندة لأسماء مركبة وهي أقرب إلى الكنيات والأسماء السرية وهي لا تحيل على رغبة في الايهام بالواقعية وانما تحيل على دلالات أخرى نفهمها من معنى الأسماء ومن متون الحكايات...
ولم تنفصل النصوص المسند منها أو غير مسند عن مناخ شكل الكتابة السردية العربية من حيث ما في طياتها من مقاطع حوارية تذكرنا بالقديم ومن استطرادات تعليمية أو حكمية أو وصفية قصيرة على نحو ما نجد في كثير من النصوص القديمة...
ولكن استحضار القدامة لا يقف عند حد العودة إلى بعض الأشكال السردية في بعض القصص وإنما في توظيف نصوص قديمة والتصرف في جوهرها واعتماد اقنعة الحكاية المثلية وأعني تحديدا ما نجده في قصة حكاية حمار...فسرعان ما ننتبه إلى أننا أمام صياغة جديدة لحكاية قديمة بعينها تدور حول الأسد الذي ذهب اليه الحمار الوحشي بحيلة من أحد الحيوانات الذي زعم له أن الأسد يطلبه لأمر هام فلما اقترب التهم أذنه ففر الحمار الوحشي لكن الحيوان التحق به واقنعه بضرورة العودة إلى الأسد بعد أن أوهمه انه لم يكن بصدد افتراسه وإنما كان يريد أن يحدثه في أمر هام في أذنه ولما عاد الحمار الوحشي انقض عليه الاسد والتهمه...
هذه الحكاية استعادها بوراوي سعيدانة وحور في مفاصلها وشخصياتها فلم يجعل الحمار وحشيا على سبيل المثال وأضاف إليها أحداثا أخرى وأعاد تاطيرها وغير شكل روايتها القديم وجعلها حكاية في جلسة خمرية وهذا أمر له دلالات كثيرة أبرزها أن هذا الشكل ليس إلا سبيلا للتخفي عن الرقابة السياسية في البلاد لا يستعيد الكاتب نمط القص القديم وإنما يستعير الحكاية القديمة ويحورها ويغير دلالاتها «...جثم الحمار على ركبتيه الأماميتين امام الاسد قائلا:
السمع والطاعة يا مولاي فاعتذارك حكمة وموعظة لا تقس على نفسك فان الرعية في حاجة إليك ولعقلك السديد...ثم لما اطمأن الأسد إلى انصياع الحمار إليه ورضوخه وثب عليه غارزا أنيابه الحادة في عنقه فاصلا رأسه الضخم عن جسده................»ص52
ولكن مناخ القدامة وتوظيف التراث لا يجب أن يخفي علينا الكثير من أشكال الكتابة الحديثة في هذا العمل ومنها تجاوز وحدة النص السردي والإكثار من الاستطرادات والتنويع في الحكايات حتى يمكن لنا أن نستخرج في القصة الواحدة أكثر من بنية قصصية... فالكاتب كثيرا ما تخلى عن وحدة النص السردي واعتمد أسلوب التقطيع من ذلك قصة الوجوه التي انقسمت الى قسمين الوجه الاول والوجه الثاني او مسرد الايام التي قسمها الى قفة....الوجيه...العم جوعان....سالم المعتل أو تقسيم حكاية فيروس على مقاطع مختلفة يقوم من خلالها باسكات الراوي السند ثم يجعله يواصل...
كما عمد الكاتب إلى اقتناص فرص للخروج عن السياق السردي من خلال استطرادات مختلفة من ذلك ما في قصة حكاية حمار من استطرادات حيث يترك الحكاية مرارا ليتطرق الى مواضيع أخرى ويفتح باب الاشارات فهو حينا يتطرق الى زمن النفاق
«لجأنا الى استعمال بعض المساحيق الخطابية من ادوات المجاملة والملاطفة على ان اقول ما ليس فيه وان يقول ما ليس في......وتمادينا في احاديث كلها كذب ونفاق...............» وحينا الى التطبيع مع الصهاينة «الم يعد العرب الى اسرائيل بعد ان شردت شعوبهم وقسمت اوطانهم وهتكت اعراضهم.................»ص47 وحينا آخر إلى النظام العالمي الجديد «فان سياسة العالم الجديد تمثيلية هزلية فلا غرو ان يطلب الضعيف الصفح والغفران من المعتدي عليه خاصة ان كان من ذوي القوة العظمى فغضبها قد يجلب للمغضوب عليه الاهوال والشدائد............» كما يحاول الكاتب مرارا أن يهتم بالعملية السردية ذاتها فتكون الحكاية سردا داخل السرد...
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه التنويعات لا تخفي ان نصيبا هاما من القصص لم يشذ عن الشكل القصصي المتداول وتجنب هذا التجريب...
فالكاتب الغاضب المدفوع برغبة التجريب يجمع بين الأنماط الكلاسيكية والحديثة في كتابته السردية ولعل هذا التنوع الاسلوبي ليس مجانيا فهو رغبة في تجديد المشهد القصصي وهو كذلك بحث عن أساليب تتخطى الواقع اليومي وتتخفى عن عصا القمع التي لم تنقطع عن توسيع قائمة المحظورات التي كانت مفروضة على الكاتب التونسي....... يتبع