صدرت حديثا ،ضمن منشورات «دبي الثقافيّة»، مجموعة جديدة للشاعرة والإعلاميّة البحرينية بروين حبيب موسومة ب«الفراشة» وهذه المجموعة تعدّ المجموعة الثالثة للشاعرة بعد مجموعتيها: «رجولتك الخائفة طفولتي الورقية» الصادرة في بيروت سنة 1999 و«أعطيت المرآة ظهري» الصادرة في بيروت أيضا سنة 2001 . هذه المجموعة الجديدة جاءت مقسّمة إلى أبواب، وكلّ باب حمل عنوانا مخصوصا وضمّ عددا من القصائد .. وهذا التقسيم لا يعني انّ القصائد التي تنطوي عليها المجموعة تختلف من حيث التجربة وطرائق الأداء، كلاّ.. فالمجموعة كلّ المجموعة تمثّل نصّا واحدا.. وتبدو القصائد، داخل هذا النصّ، بمثابة المقاطع الشعريّة.. كلّ مقطع يفضي إلى الآخر في يسر وسلاسة.. فدالّ «الفراشة» مع الدوالّ المرادفة لها أو القريبة منها تتوزّع في فضاء القصائد/المقاطع لتجمع بينها جمع تواصل وانسجام.. قد توهمنا القصائد بأنّ موضوعاتها مختلفة ودلالاتها متباينة..
كما قد توهمنا بأنّها استدعت رموزا كثيرة وأقنعة متعدّدة لكنّنا إذا أنعمنا النظر وجدنا انّ المجموعة ،كلّ المجموعة ،دارت على رمز رئيس وقناع واحد هو الفراشة.. وقرينها النور.. لهذا وجب في نظري أن نقرأ المجموعة بوصفها قصيدة مفردة تتكوّن من مجموعة من الفقرات حتّى نتمكن من الإحاطة بتجربة الشاعرة وتسليط الضوء عليها ..
في البدء كان الغياب :لعلّ أوّل ما يشدّ انتباه القارئ وهو يتأمّل قصائد المجموعة دوارنها على تيمة الغياب، الغياب بوصفه رديف العزلة والغربة والتيه. كلّ شيء حول الشاعرة يرشح بمعاني الفقد والضياع : يا للحظة الراهبة/حيث لا زمن يجنح ولا ولا شمعة رقيقة تحكي /كؤوس الغربة تترعني غرقا / ياصباح الخير /حدّثني عن غريب فرشاته غبار في إناء ذاكرتي/
إن «الغياب» هو مولّد الدّلالات، منهُ تتحدّر الصّور يأخذ بعضها برقاب بعض في ضرب من التّداعي الذي لا يردّ. هذه الصورُ قد تتبدّى للوهلة الأولى فوضى لا ينتظمها خيطٌ يشدّ مفترقها، ويجمع مختلفها فبعضها يخاطبُ جارحة النّظر، وبعضها يخاطب جارحة السَّمْع، وبعضُها يخاطب جوارح في الإنسان ألطف. غير أنّ هذه الصّور تظلّ على اختلاف ألوانها، وتباين أطيافها، منشدّة إلى دَلالةٍ واحدةٍ هي دَلالَةُ «الغياب» لكأنّ الشّعْرَ، لدى بروين حبيب، لاَ يبدأ إلاّ حينَ تختفي الأشياء وتذوب ولا تترك خلفها غير ذكرى رائحة، غير ذكْرى صوتٍ بعيدٍ. ففي هذه اللّحظة ينهض الشّعر ليقاومَ النّسيان، ويعزّزَ ملكةَ التذكّر وليرسيَ كينونة الانسان الدّاثر أمام كلّ ما هو متغيّر.
هنا كنت أمس /هنا كان شغفي وحيدا / ويومي الوحيد غريبا كأمسي .
كُلّ قصائد الشاعرة بروين حبيب تهجسُ بهذه الدّلالة. كأن هذه القصائد إنّما هي الشّهَادَة على الزّمن يجرفُ كلّ الأشياء، لكأنّها الشهادة على الشّعر يحاول أن يقاومُ ذلك الزمن، يسعى إلى منازلته والانتصار عليه..
بسبب من هذا تتلفّع قصائد الشاعرة بغلالة من الحزن الشفيف.. رغم كلّ مظاهر الاحتفاء بالحياة التي تفصح عنها في الظاهر.. حزن يقبع بعيدا في أعماق النفس.. ثمّة اشياء قد ضاعت وظلّت الشاعرة تبحث عنها حتّى إذا أصابها الإعياء ولم تظفر بها عمدت إلى نعيها..
الفراشة والطريق إلى النور: هذا الإحساس بالغياب يحوّل العالم إلى صحراء مقفرة هو الذي دفع الشاعرة إلى الارتفاع عاليا، على حدّ عبارتها، في رحلة «نورانيّة» تبحث من خلالها عن شيء من اليقين .. وهذه الرحلة التي تقوم بها الشاعرة تعيد إلى الذاكرة الكثير من الرحلات «الروحانيّة» التي عرفتها الثقافة العربيّة الاسلاميّة. هكذا نجد دالّ النور( وما جاوره من دوالّ كثيرة) قد تردّد تردّدا لافتا في هذه المجموعة. بل إنّ بعض عناوين الأبواب قد أشار إليه أو أحال عليه.. فعنوان الباب الأوّل هو: في فحولة الضوء، ، وعنوان الباب السادس هو: تمرّ كالنار، وعنوان الباب السابع هو شمس أيّامي.. هذا الدالّ والعبارات القريبة منه تردّدت كذلك في عناوين القصائد: امرأة الضوء ،الضوء المدمّى، شيء بارق، زهرة النار .