تجتاحُ المشهدين السياسي والإعلامي هذه الأيّام موجة غير مسبوقة في إدانة العنف وتجريم مرتكبيه ، وذلك بعد أن شهدت عدّة مناطق وأحياء أحداث عنف مؤلمة راح ضحيتها عدد من التونسيين وأساسا من أبناء التيار السلفي. لكن ما بقي بعيدا عن التحليل والمقاربة والتناول الإعلامي والسياسي هو البحث عن أسباب تفشّي مثل هذه الظواهر المتطرّفة والعنيفة والتي هي في واقع الأمر ليست حكرا على التيار السلفي الجهادي بل تكاد تكون سلوكا للكثير من التونسيين من مختلف التوجهات والتيارات والفئات والجهات أيضا.إنّ العنف –وهذا من تحصيل الحاصل- خطر يُهدّد لا مسار الانتقال الديمقراطي والعملية السياسيّة في البلاد بل يتهدّد النسيج المجتمعي وخصائص التسامح والعيش المشترك الّتي توارثتها أجيال التونسيين منذ عقود غابرة.
ومن المؤكّد أنّ فهم الظاهرة بموضوعيّة وبرؤية بنّاءة لا يجب أن تضع جزءا من التونسيين دون غيرهم تحت دائرة الضوء ، فمنذ 14 جانفي 2011 تكرّرت أحداث العنف والحرق والتخريب وتعدّدت مظاهر الصدام في أكثر من مناسبة وتحت عناوين مختلفة منها المطلبي الاجتماعي والنقابي ومنها الحزبي والسياسي والإيديولوجي.
صحيح أنّ الأمور تطوّرت بشكل لافت خلال الأسابيع القلية الفارطة وخاصة منذ حادثة السفارة الأمريكيّة في 14 سبتمبر ، ولكن ما لا يجب القفز عليه أنّ رائحة الفتنة والحث على العنف والدفع إلى الممارسات المتطرّفة كان عنوانا بارزا انخرطت فيه حتّى الأطراف السياسيّة بالتحريض على التباغض والدفع إلى الإقصاء والحديث المتواتر عن الخيانة والتآمر وإرباك الأوضاع العامّة لفائدة هذا الطرف أو ذاك أو بغاية سياسيّة مّا.إنّ من أقوى أسباب وقوع العنف هو التحريض عليه ، وهذا التحريض يكاد يكون خبزا يوميّا للفاعلين السياسيين حيث تمتلئ خطاباتهم بمعاني الحقد والكراهيّة والتشفّي والبغضاء ، وهم يزيدون بصنيعهم ذلك الأوضاع تعقيدا وصعوبة وتداخلا وعوض أن يحافظوا على الشموع المضاءة –حتّى وإن كانت خافتة في بعض الأحيان- ويسعون إلى إشعال المزيد منها فإنّهم يُسارعون في مساع محمومة إلى إيقاد المزيد من الفتن والحرائق.
إنّ المتابع لتطورات المشهد السياسي ولخطاب الفاعلين السياسيين يستشفّ رائحة الفتنة لذلك فإنّ التحليل الموضوعي ينتهي إلى أنّ أحداث العنف الأخيرة لم تكن سوى حصادا مرّا كالعلقم لتلك الممارسات والخطابات السياسيّة الّتي ذهبت في الكثير من الأحيان مذاهب صبيانيّة لم تقدّر في حسبانها ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع.
إنّ زرع الفتنة وتأليب الناس بعضهم على بعض بسبب الانتماء السياسي أو الحزبي أو الإيديولوجي أو العقائدي هي بوابّة إشعال الحرائق ومراكمة الأفعال العنيفة ، وعلى الفاعلين السياسيين أن يبتعدوا عن مثل تلك الخطابات أو التصريحات الناريّة الصداميّة والفجّة التي تخبّئ نفوسا مليئة بالحقد والكراهيّة تبحث أكثر ما تبحث عن الهدم والخراب وتستعيد في جوانب كثيرة منها ممارسات دكتاتوريّة لا تؤمن بالتعددية والديمقراطيّة وتسعى إلى استدامة عقلية رفض الآخر وإقصائه والتي عانت منها بلادنا كثيرا وما تزال العديد من الأطراف تحن إليها بما جُبل فيها من عدم إيمان بقيم التعايش والمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان أيا كان لونه أو جنسه أو فكره أو دينه.
إنّ المسؤوليّة الوطنيّة تقتضي اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى من كلّ دوائر الفعل السياسي والنقابي والإعلامي الكفّ عن منطق التحريض وبث الفتن وزرع الشكوك بين الناس ونشر الإشاعات والأكاذيب، لماذا لأنّ الفتنة فعلا هي أشدّ من القتل ، لأنّ القتل – إن حدث لا قدّر الله – يبقى حادثة معزولة يُجابهها القضاء والقانون ويُلاحق مرتكبيها في حين أنّ الفتنة أشدّ وقعا وأكثر انتشارا وأكثر إيلاما لأنّها تتّجه رأسا إلى ضرب النسيج المجتمعي وإحداث الوقيعة بين المواطنين سواء أكانوا أحزابا أو تيارات أو انتماءات جهويّة أو قبليّة.