«ويل لأمّة مقسّمة إلى أجزاء، وكلّ جزء يحسب نفسه أمّة». جبران خليل جبران إنّهم قسّمونا /قسّطونا / فصّصونا / برّجونا بروجا / مزّقونا مزقا وفرّقونا فرقا... من هؤلاء ؟ إنّهم من قسموا النّساء إلى سافرات ومحجّبات. إلى مسلمين بلحية ومسلمي درجة ثانية...إلى مؤمنين وعلمانيين وسلفيّين أنواعا. هم من فرّقوا بين أهل السّواحل وأهل الدّواخل...بين البادية والمدينة...بين البورجوازية والبروليتاريا... بين أزلام للعهد البائد ولجان للعهد الجديد...
من صنّفوا الأحزاب يمينا ويسارا ووسطا...إلى قوميين ووطنيّين وفرنكفونيّين...إلى أغلبية ظافرة وجماعة الصّفر فاصل.هم من وزّعوا الهويّات حسب المزاج ليدجّنوا الجميع ويقودوهم كالقطيع . آخر المستجدّات أوردها مقال بمجلّة كابيتاليس الإلكترونيّة عنوانه: «يا شباب تونس ابتعدوا» Barrez-vous! فرّق فيه كاتبه بين شباب البلاد وكهولها وشيوخها السّابقين سنّا والنّاضجين خبرة ، وهؤلاء عنده غير أهل للاهتمام بالشّأن العام وإدارة الأحزاب وحتى الانخراط فيها، فشؤون الحاضر في رأيه يجب أن تقصر على الشّباب ، فالعصر عصره، والاهتمام به اختصاصه وحده. ثمّ يأتي إلى الحادثة التي دفعته إلى كتابة مقاله وهي انضمام الأستاذ محمد الطّالبي (92 سنة) إلى حزب نداء تونس، فيصف الرّجل بأنه عالم جليل لم يستطع تبليغ آرائه إلى أبناء عصره، فذهب ينخرط في حزب يقوده شيح مثله هو الباجي قايد السبسي (85 سنة)، ويتساءل عمّا عساهما يتبادلان من أحاديث غير ذكريات قديمة ونظريّات عتيقة ، والنتيجة كما يراها الكاتب أنّ البلاد من حكم الفئة العائلية ذاهبة إلى حكم فئة الشّيوخ، وسيهمل شباب تونس في الأثناء ويحال بينه وبين الإسهام في شؤون بلده، فلا يبقى لديه خيار سوى مغادرته وتركه للأكبر سنّا.
ماذا عساني أقول لهذا المقسّم الجديد والمشتّت اليائس الذي فصل صغار تونس وكبارها إلى فريقين متنازعين، على أحدهما ترك المكان للآخر جبرا، فلا سبيل أن يتعاونا أويتفاهما؟
سأسرد له أمثلة من التّاريخ القريب عساه يتأمّلها ليرى أنّ الفئتين العمريّتين هما كالجناحين للطائر والكفّتين للميزان لا يعتدل الأمر بأحدهما دون الآخر، فالعنفوان والاندفاع لا بدّ أن تصاحبهما الحكمة والخبرة ، ولكلّ واحدة دور تقوم به وزاد تزوّد به طاقة الأمّة لتجعلها تعيش وتتقدّم. فلينظر إلى شيخ مثل عمر المختار(1861 1931) الذي حرّر ليبيا من الاستعمار ورفع شأنها ليأتي من بعده القذّافي الشابّ المهووس المتنمّر فيخرّبها ويذلّها. ولينظر إلى بسمارك (1815 1898) الذي وحّد ولايات ألمانيا وأسّس الرّايخ الألماني الثّاني وهو في الستّين من عمره حتّى لقّب بالمستشار الحديدي، ثمّ يأتي من بعده شابّ متنطّع اسمه هتلر فيقوّض كلّ ما بناه بسمارك ويدمّرألمانيا بحرب ضارية، ولم ينهضها من كبوتها سوى شيخ مسنّ آخر هو كونراد أديناور(73عاما). هل أذكر ونستون تشرشل (1874 1965) رئيس وزراء بريطانيا الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الثانية إلى الانتصار على ألمانيا وسنّه 66 عاما، وأعان بخطبه النّاريّة الإنكليز على تحمّل ويلات القصف الألماني المدمّر. وهل يمكن مقارنة هذا الأسد العجوز كما كان يلقّب بالوزير الشّاب أنطوني إيدن الذي دفع ببريطانيا في حرب السّويس وكبّدها شرّ الهزائم ؟
ما دمنا في أوروبا فلنتذكّر جورج كليمنصو (1841-1929) رئيس الحكومة الفرنسية مرتين، تولّى الثانية وعمره 76 سنة. وقد جعل هذا الرجل فرنسا تنتصر في الحرب العالمية الأولى، ونظّم معاهدة فرساي الشّهيرة.
التّاريخ القريب منّا ما زال يحتفظ باسم هوشي منه (1890 1969) مؤسس فياتنام الشّمالية الذي بدأ نضاله ضدّ الاستعمار الفرنسي وعمره خمسون عاما ، واستمر يقود الفيتكونغ ويسعى إلى توحيد شطري الفياتنام حتى بعد بلوغه سنّ الثّمانين. وقد تحقّق حلمه و حرّرت سايغون عام 1975.
سأعبر بسرعة على ذكر غاريبالدي موحّد إيطاليا ومحمد علي باشا منشئ مصر الحديثة، لأختم بذكرمحمد سيّد المرسلين الذي لم يبدأ دعوته إلاّ في سنّ الأربعين بعد أن تزوّج وتاجر وسافر وعاشر الأقوام ، وناقش الأحناف واستمع إلى رهابنة الشّام وأخبار ورقة بن نوفل، وبذلك حصل له النّضج والحنكة واعتدال المزاج وأوتي ما تسمّيه العبارة القرآنية « الحكمة وفصل الخطاب». كفّوا عن التّفريق الجاهل المغرض، وارحموا بلدكم.