الاهداء : الى شاعر محلّق، في الإملال والإقلال، مقرف، مفلق، مخنق، كان الله في عوننا، وألهمنا جميل الصبر والسلوان، آمين بجاه رب العالمين. 1 رقد، وقام، قام، ورقد، لا طاح، لا دزّوه، لا سقط، لا دفعوه، لوى خصره، أدار عجيزته ورأسه. صفّق بيديه على خدّيه، وقفز، كطفل يلعب، وقال: «هل كل من يسوّد وجهه يصير فحّاما؟. أنا تدرّبت طويلا على الآه، والأح، والأوّاه، والواحبيبتاه، ألا أكون الشاعر الأوحد في هذا الكون وصدري يغطيه الشعر الكثيف، ولحيتي تضرب لسرّتي، وقد أكلت من الشعير ما نفخني؟ اطمئنوا، ستنعمون بي، وسأتعلّق بكم وأعلّقكم في حروفي الذهبية، لنصير قرطا في أذن الدنيا، وعقدا في جيدها... الا تقيمون الأفراح؟ وما نظر اليه أحد، ما كلمه أحد، فرجع يبصق في عينيه، ويعوج فمه، متباكيا، ثم غار في مرقده يأكل الشعير و... يحلم... 2 من فوق الربوة، رأيت الأشجار متفرقة، سوداء، صفراء، تتدلّى منها حبال غليظة كحبال المشانق، انتزعت منها ضحاياها، توا، متمايسة: «ما هذا؟». كان منظرها مثيرا للدهشة. السر فيّ أم فيها؟. لا، مستحيل أن تكون هذه الأخشاب المتساندة أشجارا. معقول هذا؟ أشجار وليست خضراء؟ وفرّكت عينيّ، لأركز التثبّت وأحاصر المدى، ثم أخذت في الانحدار، بحذر شديد، خوف الانبطاح والانكباب. هل أنا في شوق لاحتضان من أفتّش عنها، أم معانقة الرمال وتقبيل الحصى؟ تعاقبت علي الأيام والليالي، وأنا أدبّ في انحداري الحذر، وكنت ازداد بعدا، كلما بدا لي أنني وصلت. أتوقف، ألوي رأسي الى الخلف فأجد الربوة جبلا عاليا، بعيدا: «آه، أنا كنت هناك؟ في تلك القمة الزرقاء؟». وبركت، وألقيت برأسي على يديّ المسندتين الى ركبتي المعقوفتين، وتهت، وتاه الرحيل، بحثا عن حبيبة لا أعرف لها اسما ولا عنوانا، رسمت ملامحها، في قلبي، همسات فجر ربيعي باسم. قالوا: إنهم شاهدوها تساق من المدينة الى الغابة، عارية، مهتوكة الشعر، تصرخ، تتصكّك، تهتز، تنتفض، بين أيديهم، كدجاجة، كحمل، تنوء قوائمه بأرجل جزار قاس، يتبارق الموت في مديته. ما هذا؟ يرونها، بكل هذه التفاصيل والجزئيات، ولم يتحركوا لها، ولم ينجدوها؟. أكيد أنهم يكذبون عليّ، يهزؤون بي، يضحكون على لهفتي، فأصيح حتى تبحّ حنجرتي، ويمتلأ فمي بالرمال، وعينيّ بالحصى، ثم... لم أفق الا وأطياف تقرعني، مقهقهة: «قم. أبيح لك أن تكون شاعرا» وحينما لملمت رعشاتي، وتحسست لساني وقلبي، وجدتني معلّقا في حبل يتدلى من شجرة سوداء، تئن، تتنهّد، وتبكي.. تبكي، فإنى لي أن أصيح: «أين الغابة، أيها المشاهدون؟» والعواصف تعصف؟ 3 ماذا أصابك، أيها الشاعر الر...قيق؟ كنت هادئا، تشعر، وحينما نطقت المذيعة الجميلة، الرقيقة، بالوقت (المحلي وما يماثله في غرينيتش والقدس المحتلة، ومكة المكرمة)، نظرت الى ساعة يدك، فتسمّرت نظراتك فيها، ثم نفخت، لاعنا: «نحن نؤخّرك، نلتمس من صاحب الحياة طول العمر، وأنت تهرولين بنا الى النهاية، تتعجّلين لنا الموت كأنك عدوّة، تتربصين بنا؟ حتّام أصبر عليك وأنت تنهشين عمري؟» واقتلعت الساعة من يدك بغضب شديد وأخذت في ضربها بالأرض ضربا متتابعا فتتطايرت قطعها، هنا وهناك، حتي لم يبق منها الا جلدتها، يتدلّى منها هيكلها الفارغ مكدوما معوجا. هه هه هه، هل هي الساعة تحدّد حياتك وموتك، فتجعلك خائفا من تقدم عقاربها؟ ماذا؟ أنت شاعر وتشعر بما لا نشعر؟ أشعر ثم أشعر ثم أشعر حتى تجد من يشفق عليك ويعلّقك في الزربية، شاهدا على أحقيّة البهائم بالتّبن والبرادع... * عبد القادر الدردوري (كاتب تونسي حي الزهور قليبية)