عندما أتأمّل ما أنا فيه بعد كل هذه المعايشة الطويلة مع أحبائي هنا في تونس أحسّ أحيانا وكأنني بعد كل هذه المعايشة (قرابة 24 سنة) عرفت شيئا وغابت عنّي أشياء، نعم، هذا ما أحسّه، فالغليان داخل القدر (الطنجرة) تحول الى انفجار بعد أن رفع الغطاء، وبدا لي وكأن النسبة الأعم لم تتوقع كل هذا الذي جرى، وأن الشعوب المقموعة بعد أن تتهدم أمامها الأسوار ستفعل المعجزات، ولكنها أيضا قد تفعل المصائب وخاصة عندما يتسلّل الى الصفوف من وجدوا في الأمر فرصة لأن يهدموا المعبد على من فيه، ولا يهمهم أمره ماداموا سيحملون معهم ما في المعبد من غنائم ! نعم، إنني أسير حيرة لا أعرفها، وأن هذا التطاحن قد تحول الى صراع مرّ، فمن أين جاء هذا الخبيء، أي نقاش في برنامج تلفزي كأنه فرصة لالتهام الآخر، سمعت ما سمعت في الإذاعات أيضا، ولكن ما ذا بعد ؟ هناك من يهدّد بالمولوتوف هكذا، وبعد ذلك لا يعتذر، وفي برنامج إذاعي سمعت من يصف أصحاب اللّحي بالتيوس، هكذا !
لغة فجّة لا علاقة لها بالحوار ولا بإبداء الرأي، وعندما هبّت المظاهرات بعد الفيلم المسيء الى الرسول ے ثم ما حدث أمام السفارة الأمريكية والمدرسة الأمريكية صار كل من يتحدث في برنامج تلفزي يهاجم الحكومة والخصوم على هذا، أصوات تلعلع دفاعا، وعندما تمّ اعتقال بعض من تظاهروا ومرّت على هذا أيام أضرب شابان حتى الموت وإذا بي أسمع من كانوا يهاجمون بضراوة وطالبوا بمحاسبة من تظاهروا قد تحولوا مائة وثمانين درجة، وتحول الخطاب الى ضدّه، فلماذا طالبوا أصلا باعتقالهم، ولم تكن تونس استثناء بل هي هبّة إسلامية رأى فيها البعض اعتداء على نبيهم وعلى مقدساتهم دون أن يحاسب من فعلوا هذا رغم أن مجرد التشكيك بالمحرقة النازية لليهود أو التعليق على أرقام الضحايا يعتبر جريمة لم يسلم منها حتى مفكر عظيم مثل روجيه غارودي.
وحصل العدوان على غزّة، ورأيت مظاهرة شبابية في شارع بورقيبة تهتف (لا أمريكا لا اخوان) فأصبت بالدهشة فمن دعا الفتية هؤلاء لحمل هذا الشعار أراد توجيهه الى الداخل والى خصومه السياسيين متناسيا أن حركة «حماس» التي تحكم غزة هي حركة اخوانية، وأن اخوان مصر الذين يحكمونها اليوم هم الذين وقفوا موقفا حازما من العدوان وتعالت الدعوات الى مراجعة اتفاقية السادات في كامب ديفيد مع الصهاينة التي أخرجت مصر من المعادلة واقتصّ الشعب المصري من السادات على فعلته هذه بقتله، ولكن الانحدار مضى مع عهد مبارك الذي تحول الى سمسار لا بالقضية الفلسطينية فقط بل بكل القضايا العربية العادلة، وكان على رأس من دعوا وعملوا على تدمير العراق ثم احتلاله من قبل أسياده الأمريكان ومعلميه الصهاينة.
لا شيء ينال الرضا، وليس هناك عمل يقدم عليه أحدهم مسؤولا كان أم مثقفا واعيا وينال الرضا، كل فعل يقابل ب«ديقاج» وقد سمعناها هذه الأيام في مهرجان قرطاج السينمائي بوجه الأخ وزير الثقافة ومدير المهرجان ومن معهما، لماذا هذه ال«ديقاج»؟ حتى أن مخرج فيلم الافتتاح الوثائقي الذي يحمل هذه الكلمة التي كانت جبارة وعاتية عندما رفعت بوجه بن علي ظنّها تحية له ولفيلمه. رفض يخاله المرء لمجرد الرفض دون وضع البديل، مهرجان قرطاج السينمائي يقام كل عامين مرة، يدعى له سينمائيون عرب وأفارقة فالمهرجان للسينما العربية والافريقية، وهذا هو الموجود، وقد سمعت اليوم (الثلاثاء) من إحدى الاذاعات من تقول بأن مهرجان قطر المقام حاليا حضره ممثل عالمي ومهرجان قرطاج لا وقد خلا من النجوم! ألا يكفي مثلا أن مخرجا بحجم توفيق صالح يحضر هذا المهرجان؟ أليس امتيازا لمدير المهرجان بل ولوزارة الثقافة أن يجري الانتباه لواحد من آخر الكبار في السينما العربية يحضر في تونس ليعرض فيلمه المرموق «المخدوعون»؟
هذه «اللّخبطة»، وهذا الرفض لا يبني ثقافة ولا يؤسّس لحوار سياسي جاد، أراه وقد تحول الى عملية حفر يحزّ في الأفئدة والمشاعر، فتونس التي أردت يوما امتلاك جنسيتها تأكيدا لمحبتي، أرى مشاهدها وقد تضبّبت، فأين الوضوح؟!
من يأتي بالهدوء؟ من يوقف غارات الفزع والخوف التي تأتي كل يوم بصيغة؟ ذات يوم كانت ذكرى 23 أكتوبر يجري الحديث عنه وكأنه يوم قصاص، ولكنه مرّ ثم ها هي هجمة أخرى تتمثل في اضرابات الجوع وبدلا من جعل الشباب يخسرون حياتهم على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني أن لا تؤجّج النّار بل أن تعمل على إطفائها ! وليعذرني من يقرأ كلماتي بغير ما أردته من كتابتها!! معانيها لا تقبل أي تأويل لا مصلحة لي فيه.