عندما قال السيد حمادي الجبالي بحرقة وأسف ما معناه أنه مستاء من بطء أشغال المجلس التأسيسي وأنه سوف يعمل في اتجاه أن ينكبّ المجلس على الاستحقاقات المطلوبة منه في أقرب الآجال لم يكن أحد ليتصوّر انه بهذا القول سوف يتعرض لسهام صديقة ولنيران شقيقة، خصوصا أن قوله عادي جدّا، وأن كلامه مسؤول، وأن طرحه هو مطلب داخلي، وحاجة خارجية في نفس الوقت كان يمكن أن يؤخذ على أساس أنه تنبيه من رئيس الحكومة وهو الأدرى والأقدر بالملفات وعليها الى أعضاء المجلس حتى يحثوا الخطى، ويرفعوا من نسق أشغالهم لأن تمطيط المرحلة الانتقالية يضرّ ولا ينفع، ويقلق ويخلق التوترات، الشيء الذي ينعكس مباشرة على عمل الحكومة وعلى جهودها، وعلى المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي معا. لكن الذي حصل هو أن رئيس الحكومة تعرّض الى كلام تصعيدي يشبه التأنيب من أعضاء ينتمون الى حركة النهضة وفيه من التقريع لشخصه ما فتح الأبواب أمام كل أشكال التأويل وفيه من النعوت ما يمسّ بشخص الرجل.
هذا إضافة الى جلب ذلك الكلام لمسألة لا نعتقد ان رئيس الحكومة كان ينوي مجرد التلميح اليها وهي مسألة علوية المجلس التأسيسي وتحكّمها هي في الحكومة لا العكس وعلويتها على كل المؤسسات الأخرى.
ثم تواصل الأمر أول أمس حين قال رئيس المجلس السيد مصطفى بن جعفر بأن المجلس مستقل إداريا وماليا على الأطراف الأخرى، ذاكرا انه من غير المقبول أن تخضع السلطة الى السلطة التنفيذية.
فهبّت عاصفة من التصفيق في صفوف نواب النهضة على وجه الخصوص، بل ان بعضهم هلّل وكبّر، وضحك وقهقه، وتزحزح من مكانه، وأومأ لزميله، وكأن نصرا عظيما قد تحقق، أو أمرا جللا قد حدث، وكان أقل التأويلات تقديرا لهذا السلوك العجيب هو ذلك القائل بأن نواب المجلس استعذبوا وضعيتهم الحالية، وأصبحوا يعملون على تمطيط مدة بقائهم. أما أكثرها ذكاء او تذاكيا، هي تلك التي جزمت بأن في سلوك نواب النهضة إعلانا على رؤوس الملإ بوجود صراع داخل حركة النهضة، وفي أعلى قيادتها.
ولأنه لا يمكن الجزم لا في هذا الاتجاه، ولا ذاك، إلا أنه يمكن القول أن هذا الذي حدث هو انعكاس لتضارب بين منطقين، منطق من يدير شؤون دولة ويعرف تفاصيلها وشروطها في الداخل والخارج، ومنطق من لا يرى إلا ظل وضعه وحزبه، فرئيس الحكومة نبّه منذ مدة الى أن المرحلة الانتقالية لا يجب ان تطول، وأن وضعها الحالي يؤثر على الاستثمار وعلى كل الأنشطة الاقتصادية وهو ما لا يمكن لمن يضطلع بمسؤولية ان يقبل به لأنه مطالب بنتائج في وقت ضاغط. وهذا منطق أول. أما المنطق الثاني فواضح انه ينطلق من أن الرحلة الحالية لم تحقق شيئا الا تهرئة الأحزاب الحاكمة، وفقدانها لشعبيتها، وبالتالي فإن إطالة المرحلة قد تأتي بمكتسبات تعيد ما تم فقدانه، وترجع اشعاعا خفت، وهذا منطق سياسي «محسوب» لكنه يراهن على خيوط دخان وهو يحمل امكانية مضادة، اي ان تزداد الأمور سوءا والأحوال تعقيدا بسبب تمطيط المرحلة الانتقالية.
وفي كل الحالات فإن الحساسية التي صدرت عن أعضاء المجلس تجاه رئيس الحكومة تدعو الى التعجب أكثر من اي شيء آخر!