كلّ الشعوب والأمم حريصة من خلال برامجها في مختلف مراحل التعليم على مقاربة نموذج لانسان ضمن اختيارات سلوكيّة استراتيجيّة، اذ لا تكفي المعرفة والمهارة عند التنشئة، بل لابدّ أيضا من التشبّع بمجموع قيم، تلك الّتي تفارق ايجابا بين الفرنسيّ والألمانيّ والأمريكيّ واليابانيّ والصينيّ، على سبيل المثال لا الحصر. يتعلّم التونسيّ كلّ شيء، تقريبا ، فيحصل على معارف وعلوم شتّى، بل يحشى دماغه بالمعلومات طيلة أعوام التحصيل، ويبدأ في مضانكة الأدوات المدرسيّة يحملها وهو طفل على ظهره، ويقضيّ الساعات في الدراسة والدروس الخصوصيّة، ويستمرّ هذا الوضع على ما هو عليه في المرحلة الثانويّة، ويتأكدّ هذا المنهج التلقينيّ في التعليم العالي. والنتيجة ان طرحنا أسئلة على البعض من أبنائنا من مراحل التعليم الثلاث فاستخلصنا: قطيعة شبه كاملة بين المؤسّسة التعليميّة والمجتمع، وعدم التمكن من أيّ لغة، بما في ذلك اللّغة الأمّ (العربيّة) ونسيان المعلومات بعد اجراء الامتحانات مباشرة لكونها تحفظ للاستظهار بها ولا علاقة لها بالمحيط ومجرى الحياة اليوميّة، واستشراء ظاهرة العنف اللفظيّ والعضليّ وتفاقم هذه الظاهرة في الأعوام الأخيرة، ولنا في ساحات المدارس والمعاهد والكلّياّت وأمام هذه المؤسّسات أمثلة متعدّدة عن البذاءات التّي يلهج بها أبناؤنا وبناتنا على حدّ سواء، وغياب الفكر النقديّ والتسليم بالجاهز المعرفيّ، وتفاوت الفرص في النجاح ومواصلة التعليم الجامعيّ بين المنتمين الى عائلات غنيّة ومتيّسرة وبين أبناء العائلات الفقيرة بعد تراجع مجّانيّة التعليم وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصيّة والمحسوبيّة وغيرها، وبطالة حاملي الشهائد الجامعيّة الّتي أثّرت سلبا في طموح المتعلّم ودفعت الى اليأس والتمرّد داخل المؤسّسة التعليميّة وخارجها، بما شهدته الأعوام الأخيرة من انفلات وأحداث عنف داخل المدارس والمعاهد والكلّياّت.
انّ موادّ التدريس كثيرة متنوّعة والامكانات متوفّرة من أجهزة وغيرها مقارنة مع بلدان أخرى في محيطنا الاقليميّ والبعض من البلدان الأخرى في العالم. الأّ أنّ اللاّفت للنظر غياب الخطّة العامّة، تقريبا، عند طرح سؤال الغاية من التعليم الّذي هوسؤال تربويّ أخلاقيّ في الأساس والمرجع.
فما المقصود تحديدا بالتعليم التونسيّ بعد أكثر من خمسة عقود؟ هل يراد به التنشئة على حذق اللّغة الأمّ ولغة أخرى أجنبيّة فأكثر أم الضياع بين اللّغات؟ وهل «التونسة» تعني الجمع بين مراجع ثقافيّة شتّى باسم الانفتاح الى أن تضمحلّ أيّ صفة للتفرّد، بها يكون الاختلاف المخصب؟
لا شكّ أنّ البرامج التعليميّة في تونس خضعت لمدّة عقود للارتجال والتجريب المؤذي اقتداء بإصلاحات التعليم الفرنسيّ وأضرّت بأجيال، فكانت مزيجا من الرّوح الاصلاحيّة المشوّهة والتوجيه بفكر واحديّ اقتضاه حكم كلّيانيّ انتصر للدولة على المجتمع، وللحزب على الدولة، وللزعيم الأوحد على الحزب. فأدّت بأجيال الى تعليم بلا تعلّم، والى معارف مجتزأة بلا ثقافة، ودليلنا على هذا الواقع الكارثيّ من عزوف الكثرة الوفيرة من حاملي الشهائد عن المطالعة والاستهانة بثقافة الكتاب والاعراض عن المسرح والسينما ومختلف حقول الفكر والابداع الفنيّ وشبه اقفار دور الثقافة وهشاشة المجتمع المدنيّ...
كذا تعليمنا، الى حدّ هذه اللحظة، هوتعليم بلا تربية لأنّه لا يدعوالى قيم ثقافيّة واضحة بما هوتراثيّ متعدّد وبما هوحداثيّ مخصوص. وان نصّص على التربية عنوانا لما هومتداول تسمية فهويراهن ضمنا على ما يتعارض مع قيم الحريّة والمواطنة والهويّة بمطلق الأخلاق، لا بمخصوصها عند التفكير الجادّ في ممارستها لصالح نفع الفرد والمجموعة الّتي ينتمي اليها، بما يتجسّد واقعا.
فالاصلاح القادم المنتظر في ظلّ الوقائع الجديدة الّتي شهدها مجتمعنا التونسيّ لا يكون الاّ بمراجعة استراتيجيّة لعلاقة التعليم بالتربية، ومفهوم التربية بمختلف مراجعها السلوكيّة لتخليص الفرد (التلميذ والطالب) من حالة الازدواج حدّ الفصام وتعيين التخرّج بالفائدة والأخلاق بالعمل، والتفكير بالحريّة، والحريّة بالمسؤوليّة، والهويّة بوضوح النواة- الأصل والتعدّد والانفتاح والفاعليّة والابداع.