بلادنا اليوم منقسة بالقوة قبل أن يصبح الانقسام بالفعل بين اتحاد الشغل تدعمه أساسا المعارضة وعلى رأسها أحزاب اليسار والمنظمات القريبة منها أو المنتسبة إليه وبين النهضة حزب الأغلبية في الحكم تساندها أساسا الحكومة والهياكل الرسمية أو المدنية القريبة منها أو التي أصبحت كذلك منذ تشكيل الحكومة الحالية. بلادنا منقسمة وقد تصبح غدا إذا ما تواصل تشبّث كل طرف بموقفه مقسّمة بين صاحب السلطة الشرعية وصاحب القوة الفعلية وهو ما يؤشر لتصادم خطير إن لم يكن داميا فإنه قطعا سيلحق أضرارا عميقة باستقرار البلاد واقتصادها وقد يصيب وحدتها الوطنية في مقتل فاتحا البلاد على مصراعيه للمجهول.
قد يقول البعض إن تونس عاشت مثل هذه الأزمات بل عاشتها هي نفسها في أكثر من مرة في 26 جانفي 1978 ثم في 4 جانفي 1984 واستطاعت رغم الآثار البليغة التي تركتها هذه الصدامات بين اتحاد الشغل والحكومة أن تلملم جراحها وأن تستعيد عافيتها. لكن الأمر هذه المرة يختلف باختلاف الوضع الانتقالي الذي تعيشه البلاد والذي تسبب في ضعضعة هياكل الدولة واشتباه السبّل أحيانا في البحث عن تحقيق الهدف الذي وحّد التونسيين بعد ثورة 14 جانفي ألا وهو بناء مجتمع ديمقراطي يحقق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لكل أفراد الشعب التونسي ولعل اختلاف الأوضاع والأطر بين أمس واليوم هو الذي يجب أن يأخذه كل طرف في الاعتبار حتى تكون أهمية المواقف على قدر ما يمكن أن يترتب عنها من نتائج غدا لا نراها نحن إلا خطيرة ووخيمة.
قد نتفهّم هذه المواقف لكن لا نقبلها. نتفهّم أن تكون النهضة مدفوعة بحكم تحمّلها مسؤولية الحكم ورغبتها المشروعة في المحافظة عليه إلى هذا التعلّق بالمواقف لأنه يمكنها أن تطمئن مناضليها وتحتوي في ذات الوقت منافسيها من السلفيين ودعاة التشدّد. نفهم النهضة لكن لا نعذرها لعلمنا أن فيها من راشدون من يعلمون أن الالتجاء إلى مثل هذه المزايدات لا يمكن إلا أن يفقد الحزب كل يوما قليلا شرعيته التي استمدها من صناديق الاقتراع. وقد تسرّع في فقدان هذه الشرعية الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لا سيما في ظل ركود الحركة السياحية وتزايد انخرام توازن الميزانية وتعطل محرك الانتاج وغلاء المعيشة وخطر التضخم المالي.
نتفهم موقف قيادي الاتحاد لكن يصعب علينا أن نقبل أن هذه المنظمة العتيدة التي كانت رحما لكل النضالات التقدمية والتي احتضنت بالأمس القريب ثورة 14 جانفي، يصعب علينا أن نقبل الانجرار إلى مزايدات قد تنتهي بتصدعها وتشققها وسقوط البلاد كلها في مستنقع الرمال المتحركة.
إن المعركة المفتوحة التي أصبحت معلنة بين الحزب الحاكم حركة النهضة وبين الاتحاد العام التونسي للشغل إنما هي معركة خاسرة.خاسرة أولا لأنها تضع طرفين كبيرين وفاعلين في مواجهة تهدّد بالخروج عن السيطرة في كل لحظة.
وخاسرة ثانيا لأن الرابح فيها سيخرج منها مهزوما بالنظر إلى ما سيلحق البلاد من أضرار وانقسامات حتى لا نقول أكثر من ذلك.إنها حرب خاسرة لأنها ستضع تونس.. ضد تونس..
صدّ لمساعي الصلح من هذا الجانب ورفض للتنازلات واشتراطات مستحيلة التحقّق من الجانب الثاني، تلك هي الصورة الحالية التي تجمع طرفي النزاع المندلع بين أهم حزب سياسي (حركة النهضة) وأهم منظمة اجتماعية (الاتحاد العام التونسي للشغل).واقع انقسام وكأنّ تونس «تونسان» ترفضان الوئام وتتجهان إلى المزيد من التوتّر والصدام ؟
هل تعيش تونس أزمة حوار حقيقة؟ ما علاقة حضور الخلفيات السياسية والإيديولوجية والانتخابية بغياب الحوار ؟ لما يحتل العنف المادي واللفظي مكان الحجة ؟ هل أنّ العنف إفراز طبيعي لطول الكبت السياسي أم انه «ظاهرة» تنطوي على نية في تأزيم الوضع ؟
في غياب الحوار حضر الصدام بشكليه المادي والمعنوي ,وأصبح المشهد السياسي والاجتماعي في تونس يشهد حالة توتر واحتقان غير مسبوقة دوافعها عديدة من الإغراق في الدفاع عن الايدولوجيا ببعديها اليميني واليساري إلى رفض التنازلات وضعف التفكير في المصلحة الوطنية ...ونتائجها تلتقي جميعها في الدفع من أجل حتمية الصدام.هذا العنف الذي يهدد بنسف كل ما تحقق في تونس اذا ما لم تعالج أسبابه الحقيقية بسرعة فائقة وإذا ما لم تقع إزالة بذور الخلاف في أكثر المسائل حساسية وخاصة منها الملفات السياسية.
التطورات الأخيرة عكست نفورا واسعا بين الأطراف السياسيّة والاجتماعية التي كثيرا ما كانت تنادي بالحوار ولكن سلوكها هذه المرة يدعو إلى الكثير من الغرابة بما فيه من تعنّت وإصرار على عدم تليين المواقف ورفض التنازلات لإنجاح مسارات الصلح وتقريب وجهات النظر التي سعت إليها عدّة جهات ، بل على العكس من ذلك لاحظنا حدّة في الخطابات ودرجة احتقان عالية في مواقف مختلف الأطراف وتمترس عجيب خلف اشتراطات حادّة وصعبة التحقيق كأن تتخلّص المنظمة النقابيّة من التيارات «الشيوعية» والراديكالية المتطرفة داخلها (كما تشترط ذلك حركة النهضة) أو قيام حكومة حركة النهضة بحل روابط حماية الثورة وهي التي تشتغل في ظل القانونيّة وحسب قانون الجمعيات منذ أكثر من سنة ونصف ( كما يشترط ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل). المشهد قريب من أن يكون عاكسا لحوار طرشان تسدّ فيه الأذان عن الرأي المخالف وترفض فيه كل المساعي الصلحيّة على الرغم ممّا تدّعيه الأطراف المتنازعة من أنّها تعي جيّدا مخاطر الإضراب العام وتداعياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة المؤكّدة وتداعياته الأمنيّة غير المستبعدة.
لماذا تصدّ أبواب الحوار ؟ ولماذا يزداد الفرقاء تباعدا ؟ ولماذا يُهدّد الفشل كلّ مساعي الصلح والتقريب ؟.ثمّ إلا متى سيتعنّت هؤلاء ؟ وإلى أيّ مدى سيصرّون على مواقفهم المتكلّسة والجامدة؟ ألا يعكس ذلك فعلا أزمة في فقدان ثقافة الحوار التي تتضمّن هوامش للمناورة والتنازل لفائدة المصلحة العليا للبلاد؟. الشروق حاولت تفكيك الأسباب الحقيقية لغياب ثقافة الحوار في تونس خاصة بين الفاعلين الكبار المؤتمنين في الأصل على مستقبل البلاد وحاضرها.
طارق بالحاج (مختص في علم الاجتماع السياسي) : الحروب تبدأ بالملاسنات
قال المختص في علم الاجتماع السياسي طارق بالحاج ان الحوار في نهاية الأمر هو ثقافة وسلوك وإدارة ولا يمكن ان نطلب الحوار في غياب قيادات سياسية غير متشبعة بثقافة الحوار فالحوار قبل كل شيء هو ثقافة مجتمع وثقافة نخب في غيابه يتحول التواصل اما لحوار طرشان أو لصراع. وأضاف: «كسلوك لا يمكن ان يتحول الحوار الى سلوك الا من طرف أناس مؤهلين له مثلا في الغرب الساسة سواء في الحكومات او المعارضة يجيدون التواصل مع المجتمع ومع الخصوم ومع الإعلام لسبب بسيط هو انهم طبقة سياسية تفكر. السياسيون يساهمون بمقالات رأي وأعضاء في جمعيات مدنية ومنتديات ثقافية ....جل الفاعلين السياسيين عندنا أناس عقائديين يدافعون عن الايدولوجيا أكثر من دفاعهم عن الوطن». كما أكد على ان «التواصل يتطلب روحا من المسؤولية والحوار ايضا وهناك نظريات علمية في فنون التفاوض بحيث يصبح الحوار هنا قدرا للطبقة السياسية والمجتمعات عندما يكون هناك إدراك مسؤول للمخاطر المحدقة بالوطن ,نحن سياسيونا يجيدون سياسة حافة الهاوية فعوض تطويق الأزمة من بداياتها نتركها تتفاقم الى ان تصل الى ذروتها ثم نصل الى اتفاق هو طريقة في إدارة العمل السياسي فالسياسيون المسؤولون والحكومات الرشيدة يديرون الشأن العام بمنطق إدارة الأزمات, نحن سياسيونا يتعاملون مع الشأن العام بمنطق إدارة الأزمات, لبث الفرقة في المجتمع وتوجيه الرأي العام وهنا يصبح غياب الحوار اداة من أدوات الحكم لانهم لا يجيدون شروط الحوار»، وشدد على أنّ «الحروب تبدأ بالملاسنات, والغريب اننا نحن ثقافة الكلمة لا نحسن التصرف في الكلمة».
عماد الرقيق (مختص في علم النفس) : شخصيات متسلطة ومتصلبة
اما المختص في علم النفس عماد الرقيق فقال ان شخصية السياسيين تتميز ب«صحة الراس» حسب التعبير التونسي اضافة الى ان «الكرسي» تحول بالنسبة لهم الى مسألة حياة او موت ,كل هذا يضاف الى انهم شخصيات لا تقبل الراي المخالف نظرا لاعتبارات نفسية تتعلق بتركيبة الشخصية ذاتها إضافة الى غياب تقاليد التنازل والحوار. كما اشار عماد الرقيق الى ان مسالة تغيير الموقف ليست امرا سهلا بالنسبة لهم ,وهذه للامانة نفسية عالمية بالنسبة للسياسيين ,وتليين المواقف بطبعه لدى السياسيين ليس امرا سهلا اضف الى ذلك المناخ العام, وحتى في الخارج من يغادر السلطة يبقى في المعارضة الى سن متقدمة, وهذا يؤكد ان كل شخص يدخل المشهد السياسي يصبح متصلبا ومتسلطا.
علي الهرابي (محام ورجل قانون) : جميع الأطراف أخطأت
بعد واقعة الاحتفال باغتيال الزعيم حشاد هبت عديد الأطراف والقوى السياسية وتهافتت للتمترس دفاعا عن شق ضد آخر فناصر البعض الاتحاد وناصر البعض الآخر حركة النهضة وعوض تهدئة الأوضاع تفنّن البعض في صبّ الزيت على النار دون حكمة أو تبصر أو قراءة عقلانية للعواقب والآثار وهو ما تطلب منّا تذكير طرفي الصراع وأهل الدار بان لا مصلحة للوطن من الصراعات التي لن تخلف إلا الفتنة والنار والانفجارات . أولا: نسي البعض ان كل من الاتحاد والنهضة له تاريخ طويل من النضالات فالأول كان دوما شوكة في وجه الاستعمار ومقره كان ملجأ ومنطلقا لمواجهة أنظمة الدكتاتورية والعار أما الثانية فهي صاحبة نصيب الأسد من التعذيب والتهجير ومقاومة الاستبداد الذي حكم طويلا البلاد .
ثانيا: تغافل البعض ان طبيعة العلاقة وطبيعة المرحلة لا يمكن أن تؤسس لعلاقة ودّ بين طرف نقابي يضغط دوما لتحقيق المطالب الاجتماعية وطرف سياسي صاحب الاغلبية يسعى لتهدئة اجتماعية .
ثالثا: لم تتصرف الأطراف الخارجة عن الصراع بموضوعية ومسؤولية وعقلانية وصراحة إذ كانت رابطات حماية الثورة تخدم في جانب ما أجندات النهضة فان هناك تيارات داخل الإتحاد تعمل لمصلحة المعارضة ولكن برغم تلك المعطيات فلا يحق للنهضة انتهاك حرمة الاتحاد ولا يحق للاتحاد انهاك البلاد بالإضرابات لمقاومة النهضة والرابطات والفيصل بين هذا وذاك هو القضاء ومصلحة البلاد. رابعا: لا يحق لأي كان سواء كان النهضة أو رابطات الثورة أو الاتحاد أو المعارضة التلاعب بأمن ومصلحة البلاد بل لا يجب أن يتحكم في مصير البلاد السيدان راشد الغنوشي وحسين العباسي بقدر ما يجب عليهما أن يضربا مثلا في التعقل والتبصر وتجنيب البلاد التقسيم والفتنة والفوضى والطريق المسدود. خامسا : جميع الأطراف أخطأت ولكن بدرجات والأوان لم يكن قد فات لذلك بات من الضروري تدخل وسطاء الخير لمصلحة البلاد والعباد فنحن أبناء وطن واحد وجميعنا كنا ضحايا الاستبداد أما اليوم فنكبتنا هي مدى التوفيق بين السلطة والحرية والمسؤولية والحقوق النقابية لبناء الجمهورية الديمقراطية في كنف السلم الاجتماعية.