يلح علي هذا السؤال الذي جعلته عنوانا لمحطتي هذه: هل المثقفون العرب ثمار الديكتاتوريات الفجة؟ ومن المؤلم بل من المؤسف ان يكون الجواب: نعم، نحن هذه الثمار التي خرجت من الأشجار الهجينة التي غرسها ديكتاتوريونا المتعاقبون، وكأن من سلم منهم من الموت يقف هناك في أي منأى حل به ويخاطبنا من وراء أسواره البعيدة ليقول: أرأيتم؟ تربيتي وعصاي وسجوني وبوليسي نفع معكم، أعاد صياغتكم، بل مسخكم وجعلكم كما كنت أريد لكم أن تكونوا! يا شماتة ديكتاتوريونا بنا كما ورد في احدى مسرحيات عادل إمام الساخرة رغمة ان المعنية هناك «ظاظا» أو «أبله ظاظا»، ألم يكن لنا في كل بلد عربي «ظاظا» وأي «ظاظا»؟!
ديكتاتوريونا لم يكتفوا بمسخنا بل جعلوا فئة منا جوقة مصفقين في مواكبهم، وعند سماع خطبهم الجوفاء، لم يتركوا صوتا معارضا إلا وقمعوه، مثّلوا به، شيطنوه، تساوى أمامهم كل من عارضوهم، اسلاميين، يساريين، يمينيين، فلاحين، شغالين، متحزّبين، مبدعين غير ممثلين... الخ.
كل من يتململ، كل من يقول لا، وعندما أقول ديكتاتوريينا فإنني أقولها وأنا أتأمل بانوراما الوطن العربي من آخر نقطة مغربية الى آخر نقطة مشرقية. كانت الديمقراطية حلمنا، لكنهم جعلوها كابوسنا، صارت هكذا عندما رفع الغطاء عنهم وسقطوا تباعا واحدا واحدا، مضوا الى حتوفهم وكأنهم يخاطبوننا قبل ان يولوا: كيف ستبدرون أموركم بدون عصيّنا؟ بدون بوليسنا؟ بدون سجوننا؟ لقد رفعنا عنكم اليد، وجاءتكم ديمقراطية فائضة وفائضة جدا، صرتم تقولون كل شيء وتكتبون كل شيء، وتشكلون الأحزاب على هواكم.
ولكن المقموع في داخلكم يظل مسكونا بالخوف، وحتى ان جعل من الديمقراطية عملته وبرنامج حزبه وعنوان مقالاته فإنها ستكون ديقمراطيته هو، ديمقراطية حبلى بالأنانية، وبعدم الاعتراف بالآخر ولما كان حكماؤكم ومفوّهوكم يؤكدون ان الديمقراطية ممارسة وان لا ديمقراطية بدون شعوب ديمقراطية، ويبدو اننا نجحنا في تصحير البلدان التي حكمناها، زرعناها بالخوف وجعلنا من الأنانية سلوكا، وعممنا نموذج الانسان الذي لا يؤمن الا بنفسه، وعليه ان يفتك وينهب ما يستطيع افتكاكه ونهبه!
من المؤلم جدا بل ومن المؤسف والمفجع أن يكون هذا حالنا، شدّ وجذب، وصول الى ذرى من تخويف المواطن الآخر الشريك والأخ وابن العم؟ كيف نقول لأولئك الديكتاتوريين: خسئتم واللعنة على معدنكم الرديء، وأن أتباعكم القدامى، أيتامكم مهما عاندوا لابد أن يتواروا فهذا زمن غير زمنهم، هذا زمن آخر، بشروط أخرى، فيه أناس مهما اختبطت المياه في كؤوسهم لابد ان تصفو ويترسب الطمي ليتلألأ الماء زلالا في الكؤوس لتشرب منه هنيئا.
هذا المشهد المصري مخيف، لم يتركوه يهدأ، مدنية الدولة صارت سؤالا بعد ان أصبحت حقيقة، التدخلات جعلتها هكذا فاضطرت رئيس الجمهورية الى العودة للجيش والاستعانة به، ولعل هذا هو المطلوب من قوى الثورة المضادة اختصارا للوصول الى الحكم والذرائع دائما جاهزة، ونخشى على رموز الحركة الوطنية المصرية الذين كنا معهم دائما ان يغرقهم هذا المدّ رغم ان كل ما هو ماثل من الممكن ان يتغير ولكن من خلال صندوق الاقتراع! هو الذي يمنح وهو الذي يأخذ.
وفي تونس التي انطلقت منها البشارة يجري ما يجري، دعوة اتحاد الشغل الى الاضراب وقوى وأحزاب أخرى ترفض هذا الاضراب، عملية شد عجيبة وكل من له حساب لم يصفّ هذا يوم تصفية الحساب مع هذا الحزب او تلك الجهة او هذا التنظيم!
نسمع كلاما وأي كلام، قبل أسابيع كتبت هنا وأنا المتابع (يبدو ان لا أحد يريد ان يسمع الآخر، وأن كل طرف يريد ان يسمع صوته!) وها أنا أعيده بعد أن أصبت بالتخمة من النزاعات التلفزية والإذاعية والصحفية وظهر على سطح الأحداث من ظننا انه أدرك بأن الزمن ليس زمنه وأن القادمين الجدد في زمن الثورة الباحثين عن العدل والكرامة والذين دمرتهم زنازين السجون وشردت أسرهم من كل الفئات وكل الأحزاب هم الأحق.
في المغرب الأقصى لي أصدقاء خرجوا من السجن ليكونوا وزراء وسفراء وبرلمانيين، وهم لم يدخلوا السجون من أجل هذا، بل ان الشعب ارتأى ان يكرمهم ويفيد من تجاربهم.
أذكر أن أحدهم اعترض على وجود أديب كبير على رأس وزارة الثقافة لأنه لا يمتلك شهادة عليا فرد عليه أديب آخر معددا ما يمتاز به من مؤهلات وكان من بينها انه دخل السجن عشر سنوات!
وامتياز كهذا تأهل به عدد من رموز الحركة الوطنية التونسية في نضالهم وعذاباتهم واضراباتهم. تونس يجب أن تظل بعيدة عن كل أذى، عن كل مزايدة، لأنها لكل التونسيين، وتجربتها اختبار للآتي من ثورات العرب وبلدان العالم الثالث المبتلاة.