لست من المتعاملين مع المواقع الاجتماعية المعروفة لأنني أراها لدى البعض مضيعة للوقت وبإمكان أي كان أن يكتب ما شاء عن نفسه فيضخم ذاته الى أكبر الحدود ولكنه في الواقع الثقافي لبلده لا يعني شيئا ولا يساوي أي قيمة إبداعية. ويا لهذا الفضاء المفتوح من مدى ينزل به ويصعّد، يقول ما يريد، يشتم الآخرين وخاصة إذا كانت له خصومة أدبية أو شخصية معهم ويمدح ذاك، وينشر الشائعات عن خصومه السياسيين والثقافيين. علاقتي بهذه الأمور لا تتعدّى عنواني في البريد الالكتروني الذي أصبح ضرورة، فيها اختزال للوقت وفيها ضمان للوصول برمشة عين. لكنني أطلّ أحيانا على بعض المواقع مستعينا بأحد من آل بيتي لمجرد الفضول فقط لأرى ماذا يفعل الناس وكيف يبدّدون أوقاتهم فأرى ما أرى، أرى العَجب العُجاب. لكن الذي لفت نظري وتوقفت عنده هي هذه الخصومات التي تصل حدّ العداء سواء بين السياسيين أو بين الأدباء، وإذا كان العداء بين السياسيين الذي من المفروض فيه أن لا يكون «عداء» بل وجهة نظر مختلفة، قراءة مغايرة للأحداث، وهذا العداء تونسيا أراه وأسمعه وأقرؤه، أراه متلفزا وخاصة إذا اجتمع سياسيون من مشارب مختلفة فكأن كل واحد يبحث عن هذه الفرصة ليهجم على الآخر مثل الندوة الأخيرة التي قدمتها التلفزة الوطنية الأولى إذ لم أستمع الى حوار حقيقي بل الى اتهامات وهجومات، ويكون الردّ قويا بحجم الاتهام، والناس الذين أعايشهم أراهم على قلق ويودون سماع ما يطمئن، ما يجعلهم يرون هذا الذي اصطلح على تسميته ب«الضوء في آخر النفق»، لكن الحوارات هذه تقتل الأمل وتجعل مساحة الحيرة أوسع.
إن البلاد اليوم غيرها بالأمس، والإرث الدكتاتوري الذي عاشته منذ استقلالها قد صاغ نماذج من البشر الفردانيين الذين لا يرون إلا أنفسهم أو مواقعهم أو انتماءاتهم وكل ما عداها مرفوض وغير مقبول.
إذا كان عقلاء القوم يسمون هذا تمرينا على الديمقراطية فإن البعض يرونه شجارا خارج ساحة الديمقراطية، وهذا أمر مؤسف ومؤلم لكل محبي هذا البلد والذين ملأتهم ثورته بالتفاؤل واقتدت بها بلدان عربية أخرى وإن اختلفت الصيغ.
إن الحديث عن موعد 23 أكتوبر فيه وعيد، وبدا للبعض موعدا يجلب الخوف في حين أن المطلوب هو الاحتفال بهذا التاريخ الذي عرفت فيه تونس للمرة الأولى انتخابات حرّة انتصر فيها كل الشعب، وليس حركة النهضة أو حزب المؤتمر أو التكتل. كانت الانتخابات امتحانا نجح فيه الشعب وكرّم من كانوا عنوانا للقمع من قبل نظامي بورقيبة وبن علي سواء كانوا من الاسلاميين أو اليساريين من المؤمنين أو من العلمانيين.
ومازلت أتذكر المقال الذي كتبته في هذه الزاوية من «الشروق» وتمنّيت فيه مع صديقيّ العربيين المقيمين هنا لو أننا قد عرفنا مثل تجربة الانتخاب هذه إذ وقف التونسيون بطوابير طويلة وبكل هدوء وصبر للوصول الى صندوق الاقتراع الذي يجب أن يظلّ السيد، وإن من يريد الفوز فمن خلاله وعليه أن يقدم البرنامج السياسي ويقنع به الناخبين من أجل تحقيق الفوز. مران على الديمقراطية لا بدّ منه حتى يصبح الفريق جاهزا، أما بعض ما نراه فكلّه ردود أفعال وعمليات تهييج ليس إلا.
لكن ما يحصل بين الأدباء لا يبتعد عن هذا كثيرا وإن كانت مساحة تحرّكهم صغيرة وغالبا ما تحدث حروب داحس والغبراء على صفحات التواصل الاجتماعي، وأجد حروبا عمياء لا توصل الى شيء لأنها حرب اتهامات وتنابز بالألقاب والأوصاف.
ولم أجد حوارا جادا حول حاضر ومستقبل الأدب في هذا البلد وأخشى أن أذهب أبعد عندما أقول بأننا لم نجد القصيدة الكبيرة ولا القصة القصيرة المتميزة في ما نشر بعد الثورة، وربما يكون الاستثناء في بعض الروايات المتميزة فعلا.
نقول هذا لأننا نراقب المشهد الثقافي الي نحن جزء منه، والمشهد السياسي الذي لسنا جزءا منه، ولنا أحكامنا في الذي نراه أو الذي نقرؤه وإن كنا نحاذر من الكتابة عن تفاصيل هذا المشهد وما ينشر فيه فنذهب الى قراءة نصوص عربية غير تونسية لنبتعد عن أي صداع قد يأتينا.
هذه مرحلة أخرى في تاريخ هذا البلد ونحتاج الى وسائل جديدة ورؤى جديدة وقراءات جديدة ومحبة جديدة، فما الذي يريده فلان إذا شتم علانا؟ وماذا تريد فلانة إذا تماهت مع علانة؟ إن المطلوب التبشير بالجاد والمتفوق والابتعاد عن هذه المعارك الوهمية التي تحمل سمات عهد انتهى ولم يعد قائما اليوم، ولا يمكن أن يعود وإن لم يسلّم من نعموا به بمعطيات هذا الواقع الذي لا يمكننا إلا أن نرى فيه نهارات مضيئة بعد تلك العتمة القديمة. إن الأوطان لكل أهلها، والابداع ملك لكل أبناء البلد، به يتباهون ويفاخرون.