هي المدينة الأقدم في العالم حتّى قيل إنّها بنيت على طين الطوفان. عرفت، كما يقول علماء التاريخ، أربعين حضارة، بعضها انطفأ سريعا، وبعضها أشعّ على العالم ..كلّ العالم.
على أرضها اندلعت حروب طويلة بين أهمّ الإمبراطوريات القديمة مثل الإمبراطوريات الفينيقية والآشورية والإغريقية والفارسية والرومانية والفرعونية. ثم كانت بعد استقرار الإسلام مسرحاً رئيساً للغزوات المغولية والصليبية أمّا في العصور الحديثة فقد كانت حلبة صراع بين القوى الكبرى.. فبعد الاحتلال العثماني عرفت الاحتلال الانقليزي والفرنسي...
اسمها يعني بالأراميّة الحديقة الغنّاء أو الأرض المزهرة أوالبلاد المسقية كما يفيد هذا الاسم معاني الكثرة والوفرة والنّعم.. وقد احتفظ الاسم العربيّ بظلال الدلالات القديمة فقد سمّيت جلّق (أي المدينة) ولقبت بالفيحاء والفيحاء تعني الواسعة من الدور والرياض.
والواقع أنّ تاريخها لا يعكس رومانسيّة هذا الاسم وإيقاعه الجميل.
فهذه المدينة ظلّت على امتداد التاريخ في حال استنفار تردّ عدوّا محتملا أو حقيقيّا.. قلّما خلعت زيّها العسكريّ..وإن خلعته فلسنين معدودة.. فعهود الأمن والسلام قليلة في تاريخها.
ثمّة دائما عدوّ متربّص، سواء في الداخل أم في الخارج، يريد الانقضاض عليها . ولهذا ظلّت دائمة الحذر، قليلة الاسترخاء..وظلت عينها على ما حولها .. لكن، مع ذلك، لم يكن الدمشقيّ رجل سلاح وإنّما كان دائما رجل تجارة وزراعة..وهاتان الصناعتان ، إذا أخذنا بمصطلحات ابن خلدون، تتوقيان الحروب فلا تزدهران إلاّ في عهود الأمن والسلام..لكن مكر التاريخ والجغرافيا كثيرا ما أكره الدمشقيّ على حمل السلاح لردّ عدوّ طارئ أو لمقاومة محتلّ مقيم. الدخول إلى هذه المدينة دخول إلى أزمنة متراكبة...وهذه الأزمنة تعيش على الرغم من تباعدها في كنف العافية.
أربعون حضارة، كما أسلفنا، مرت من هنا.. بعضها معلوم، وبعضها مجهول.وهذه الحضارات تركت وراءها تنوعا إثنيا ودينيا لم تعرفه مدينة أخرى في الشرق، كل الشرق.. دمشق هي بيت كل الأجناس وكلّ الأديان وكلّ الطوائف...كلّما ضاق بلد بملله أونحله..احتضنتها دمشق وأذابتها في نسيجها المعقد الجميل... ولعل أول ما يشدّ الانتباه وأنت تتأمل معمارها هاجس الدفاع عن النفس..وردّ الأعداء..ويتجلّى هذا، أقوى ما يتجلّى، في قلعة دمشق الضخمة : هذه القلعة التي تحتوي على عدد كبير من الأبراج كل برج من أبراجها يتألف من عدة طوابق. في كل طابق ردهة واسعة، معقودة بالحجارة العادية، والحجارة الضخمة المدببة. وهي مجهزة بشرفات بارزة، لصب السوائل الحارقة، والقذائف المشتعلة،وقد اقتبسها الصليبيون عن العرب فيما بعد. أما مرامي النبال فهي كثيرة تعلو جدرانا يبلغ سمكها ثلاثة أمتار وهذا السمك من شأنه أن يقاوم المنجنيق.
لكن هذا لا يعني أنّ المدينة ّذات طابع عسكريّ كلاّ فمدينة دمشق هي مدينة الأسواق والمدارس والمساجد والخانات والحياة المدنية في أبهى صورها.والدخول اليها دخول في مهرجان من الأصوات والألوان والروائح عجيب...لكنّ هذا لا يعنى هذا أنّ دمشق تخلّصت من أعدائها فعلى بعد خمسين ميلا تربض، منذ خمسين عاما تقريبا، القوات الإسرائيليّة فوق إحدى الهضاب المشرفة عليها.. وأعني بذلك هضبة الجولان ..وحين نتحدّث عن الجولان فنحن نتحدّث عن أهمّ مخزون مائي في الشرق الأوسط كان يغذّي، إلى وقت قريب، بساتين دمشق وحدائقها ، كما نتحدّث عن موقع استراتيجي خطير يهدّد باستمرار العاصمة السوريّة . فمن سفح هذه الهضبة،
يستطيع الناظر أن يشرف على شمال فلسطينالمحتلة، إسرائيل اليوم، كما يمكن له أن يشرف بالعين المجردة على السهول السوريّة التي تنبسط حتى أطراف العاصمة .كما أنّ هضبة الجولان تعني أكبر محطّة إنذار مبكّر في الشرق الأوسط تمكّن إسرائيل من مراقبة أكثر من أرض عربيّة...وعلى وجه الخصوص الأرض السورية.. وفي الأراضي السوريّة تمكّنها من مراقبة دمشق...كلّ دمشق.
هذه المدينة لا ترزح اليوم تحت عبء الاحتلال الاسرائيلي فحسب وإنما ترزح أيضا تحت عبء حرب اهلية ضروس..كلّ السيوف تشرب من دمها..وكذلك كلّ الخناجر. مرّة أخرى تجد نفسها في وحدة فادحة، ولا أحد حولها..مرّة أخرى يمكر التاريخ..يعاقبها، ويمعن في عقابها. ومن جديد تراقب إسرائيل ما فعل العرب بأنفسهم.. لتجد أنّه أكبر ممّا فعلته هي بهم...ولتتأكّد مرّة أخرى أنّ أعداءها هم في الواقع حلفاؤها ، أقرب حلفائها..حتى ليمكن القول إنّ إسرائيل ليست نتاجا غربيّا فحسب وإنّما هي نتاج مشترك غربي عربي.