ما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين وما انتهى إليه من حصاد أوّليّ وكم هائل من المؤشرات ينبئ بتغير بنية المشهد الوطني في المرحلة القادمة. بكل الاعتبارات فان حجم ما جرى من تصعيد واحتقان ومخاوف ودفع الأزمة إلى أقصاها في البداية ثم ما انتهت إليه الأوضاع من تهدئة وانفراج بإلغاء الإضراب العام والاتفاق بين الحكومة واتحاد الشغل لا يمكن أن يمُرّ دون تعميق القراءة والتحليل وتفعيل آلية الاستشراف حول المستقبل.
جسد الجدل حول الإضراب العام قمة التوتر بين مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الكبار في البلاد والواضح الآن وقد وضعت الحرب أوزارها وهدأت العاصفة أن مختلف الأطراف قد حشدت كل قواها وإمكانياتها في معركة لو وقعت لعرت موازين القوى ولكشفت نوايا وأجندات الداعين إلى الفتنة والفوضى، فمنطوق الخطاب وطبيعة القرارات التي اتخذت غداة أحداث بطحاء محمد علي بالعاصمة كانت تدفع بالأزمة إلى أقصاها ومنتهاها ، ولولا صوت العقل أولا ومتغيرات الواقع ثانيا لدخلت الأزمة مطب كسر العظام بما فيه من مخاطر على الاستقرار والسلم الاجتماعي ووحدة التونسيين.
ربما يحتاج الأمر إلى بعض الوقت حتى تتوضح مخلفات ما جرى ولكن من الأكيد أنّ البلاد تتجه فعلا إلى الدخول في مرحلة جديدة كان منطلقها الأساسي جلسات التفاوض بين أقوى طرفين على الساحة اليوم وهما الحكومة وما يدور في فلكها من مؤيدين ومناصرين والاتحاد العام التونسي للشغل كقوة اجتماعية وكراس حربة للمعارضة في مواجهة السلطة مثلما أرادت له الأحداث - وربما الأجندات الخفية - ذلك ، ففي النهاية والسياسة بنتائجها كان التفاوض بين السلطة والمعارضة ، انكسر الطرفان إلى إرادة التعقل ومنطق الحوار ونبذ العنف وتدافعا دفعا إلى نزع فتيل الأزمة وحققا توافقا في لحظة هي الأشد تعقدا وخطورة وتوترا وصداما وتعنتا خلال الأشهر الأخيرة.
ما حدث أطاح منطقيا وواقعيا بنظرية الرهان على توتير الأوضاع وإحداث الفوضى وتحريك الشارع لتحقيق الكسب السياسي وأقام فرزا جديدا للتعقل والحكمة والعودة غصبا إلى فلسفة الحوار والتواصل البناءة والجادة.
إنّ سياسة الحوار وتغليب الحكمة والانتصار إلى المصلحة الوطنية وتجنيب البلاد عوامل الاحتقان والتوتر والالتفات إلى استحقاقات البلاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والانتخابية بما تقتضيه من هدوء واستقرار وتنازلات، هي عناوين المرحلة الجديدة المنتظرة، وربما لم يكن من الغريب أن تتم المصادقة على قانون إنشاء الهيئة المستقلة للانتخابات عشية الاتفاق بين الحكومة واتحاد الشغل وان يصدر المجلس الوطني التأسيسي مسودة الدستور أول أمس الجمعة وحتى خلال فترة الأزمة تداعت مختلف الأطراف إلى المساهمة في مد جسور التواصل ونشطت آلية المصالحة والتدخل بالحسنى بين طرفي النزاع ورأينا في هذا المجال الكثير من المبادرات من شخصيات وطنية ومن رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس الوطني التأسيسي ومن أطراف سياسية عاقلة ورصينة.