يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (الآيتان 24 و25/ سورة إبراهيم). والله أسأل أن ينطق لساني بكل كلمة طيبة، وأن يخرسه عن كل كلمة خبيثة...
حينما سيحلّ فصل الربيع القادم، لن يستطيع فتية، في مقتبل العمر، من أبناء هذه الأرض الطيبة أن يروا أنواره المشرقة، وأشجاره المخضرّة، وأزهاره المتفتّحة، وأطياره الشادية، وأنهاره الجارية...
نعم إنهم لن يستطيعوا أن يروا جميع تلك المباهج لأن «بشرا» من بني وطنهم، بيّتوا بليل، ذات يوم أسود من أيام نوفمبر 2012، أن يطفئوا نور عيونهم، وأن يسلبوهم، بكل غلظة وفظاظة، نعمة البصر التي أنعم الله عليهم بها...
وإذا كنت، وأنا أتابع فصول هذه الفاجعة، شعرت بألم فظيع، فإنني لا أجرؤ على أن أتخيّل، مجرّد تخيّل، فظاعة الفجيعة التي يشعر بها هؤلاء الفتية الذين صدّقوا أكذوبة ما سمي «الربيع العربي»، فخرجوا طمعا في اقتطاف زهرة من أزهاره، فإذا بهم يحرمون، إلى الأبد، من رؤية الربيع...
وإنني لأدعو الذين اشتروا «سلاح العمى» بأموال التونسيين، والذين أمروا برفعه في وجوههم، والذين استخدموه، ثم الذين دافعوا وما يزالون يدافعون عن استخدامه، بأعذار هي أقبح من الذنوب، إلى أن يخصّصوا، هذا المساء، عندما يضعون رؤوسهم على مخدّاتهم، بضع لحظات للتفكير فيمن حرموهم أو تسبّبوا في حرمانهم من عيونهم، فلعل مراقدهم ستجفوهم، ولعل شيئا من الندامة على ما اقترفوا سيصيبهم...
إننا، حتى الساعة، وبالرغم من أننا لم نر في ظل نظرية «التدافع» التي طلع علينا بها من «مكّن الله لهم في الأرض»، بعد طول تحيّن، إلا تدافع الإخفاقات والخيبات، الإخفاق تلو الإخفاق، والخيبة تلو الخيبة، ما نزال نؤمل من «رعاة تونس الجدد» أن يقيموا الصَّلاةَ، وَأن يؤتوا الزَّكَاةَ، وخاصة َأن يأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَأن ينهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ، وَأن يتذكّروا أن عَاقِبَةُ الأُمُورِ لله، عملا بما جاء في الآية الحادية والأربعين من سورة الحجّ... أمّا إذا أصرّوا على التمادي في تبرير ما فعلوا ويفعلون... وعلى مواصلة السير في نفس الشعاب المحفوفة بالأخطاء والخطايا، فإن قول «الكلمة الطيبة» يقتضينا أن نحذّرهم من أن «السكرات» الثلاث التي يبدو من خلال خطابهم كما من خلال سيرتهم أنهم وقعوا فريسة لها لن تلبث أن تزلزل الأرض تحت أقدامهم...
أفلم يعلموا، أولا، أن سكرة «الحقد» الذي قد تكون راكمته، في نفوسهم، سنوات السجن والمطاردة والمنفى... لا تعمي وتصم فحسب، بل تصيب صاحبها بالغباء... ثم ألم يعلموا، ثانيا، أن سكرة «التعصّب للذات ظالمة أو مظلومة»، تفقد صاحبها البصر والبصيرة، لأن التعصّب، في كل الأحوال، وعلى مرّ الأحقاب، لا يكون إلا أكمه، وهو يحرم المتعصّب من نشوتي حيرة السؤال، والشك طريقا إلى اليقين، إذ يوهمه بأنه يحيط بكل شيء علما... ثم ألم يعلموا، ثالثا، أن سكرة «الكرسي» كثيرا ما تذهب بلبّ الجالس عليه، فإذا به، كما يقول أبو العلاء المعري في لزومياته، يسوس الأمور بلا عقل، فلا يلبث الناس أن يقولوا له «أف من الحياة... وأف منا... ومن زمن رئاسته خساسة»...
ولعله من نافلة القول أن اقتران هذه السكرات الثلاث ببعضها البعض لا يمكن أن يتمخض إلا عن نوع مستعصي العلاج من العمى السياسي الذي لا يمكن، بدوره، إلا أن يقود إلى عمى عضوي على شاكلة عمى فتية فاجعة نوفمبر الاخير...
فهل سيدرك «رعاة تونس الجدد» هذه الحقيقة الأزلية الأبدية؟ أم أنهم سيظلون يعمهون في مجاهل الكبر والمكابرة اللذين استبدا بهم، وركباهم حتى باتت سياستهم تتراوح بين الارتباك والارتكاب؟.. اننا نرجو، صادقين، أن يراجعوا أنفسهم، وأن يتذكروا أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: « قال الله تعالى : الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي قصمته»...