رغم المخاوف العامة من إمكانية تسرب الإرهابيين أو كبار المجرمين عبر الحدود، يبدو أن سكان ولاية الكاف مطمئنين إلى نجاعة الحضور الأمني والعسكري، مشغولين بتعثر التنمية وانعدام بوادر مشاريع مشغلة رغم شكوى الفلاحين والمقاولين من نقص اليد العاملة. تبدو مدينة الكاف هادئة رغم موجة البرد وتأخر موسم الأمطار، باستثناء خيمة اعتصام تهزها الرياح الشتوية أمام مدخل مبنى الولاية نصبها بعض شباب المدينة للمطالبة «بالشغل والتنمية». يبدو الشباب هادئين ومسالمين، رغم الشعارات الكثيرة التي ملأوا بها جدران المنطقة المجاورة، لكن مسؤولي المدينة يعرفون أن الغضب قد يتحول كما حدث منذ أسابيع إلى مواجهات وعنف وأعمال تخريب، حتى أن شابا من العاطلين عن العمل قال لنا: «الكاف هادئة إلا قليلا، وهذا القليل هو الذي قد ينفجر».
أما في مقاهي المدينة وبين نخبها، فقد تراجع الحديث عن المخاوف من الحدود الجزائرية ومن إمكانية تسرب عناصر جهادية عبر الحدود الجبلية ذات الكثافة الغابية الكبيرة، وبدا أن سكان ولاية الكاف والمناطق الحدودية قد استعادوا نمط عيشهم العادي رغم الحضور الأمني المكثف الذي يمكن ملاحظته في المراقبة الصارمة للسيارات في مداخل المدن والقرى والطرقات الحدودية بالإضافة إلى دوريات الجيش الوطني، واستمر عرض أواني المازوط والبنزين الجزائري في الأماكن العامة والمفترقات، بالإضافة إلى حضور السياح الجزائريين الملحوظ في المدينة وقرى الولاية. وهكذا تباعد الحديث عن الشخصين المورطين في حادثة السيارة المحملة بالسلاح في معتمدية فرنانة بولاية جندوبة المجاورة والتي تورط فيها اثنان من سكان معتمدية تاجروين تم القبض على أحدهما فيما يجري البحث عن الثاني الذي يروج أنه من الموالين للتنظيمات الجهادية.
وفي صبيحة الجمعة، توصل المحققون إلى إيقاف شخص ثالث مطلوب للتحقيق في قضية سيارة الأسلحة، لكن أغلب الناس بدوا أكثر اهتماما بأسباب العيش اليومي.
مازوط وسياح
يقول لنا شاب يعمل في بيع البنزين المهرب في ساقية سيدي يوسف: «ثمة نوع من الاتفاق هنا، نحن المزازطية (المشتغلون بتجارة الوقود المهرب) نتولى إبلاغ السلط الأمنية بكل ما يثير الشك والشبهات في المناطق الحدودية، نحن نعيش من تجارة الوقود لأن الجهة لا توفر لنا مصادر عيش أخرى، لكننا نرفض تماما السماح لأي منحرفين أو إرهابيين بالعبور من هنا». وفي مدينة الساقية، يعيش الناس يوميا مع جيرانهم من قرية الحدادة التي تبعد أقل من كيلومترين عن الساقية، ولا يفصلها عنها سوى وادي سيدي يوسف ونبع الماء الذي يتقاسمه سكان المدينتين.
يحضر عدد هام من الجزائريين يومي الجمعة والسبت إلى سوق الساقية حيث تعجبهم الملابس القديمة وبعض الأغذية والمصنوعات التونسية ويحضر بعضهم مشتقات الحليب الجزائرية والشوكولاطة، ويتم التبادل التجاري دون إثارة الانتباه إنما بكميات شخصية بسيطة. وعندما نسأل عن إمكانية تسرب «إرهابيين أو جهاديين» عبر الحدود الغابية المشتركة شمال مدينة الساقية تجمع الأجوبة على أن السكان لا يترددون في الإبلاغ عن أي شخص مشبوه في الجهة، ويتعاونون مع السلطات الأمنية والعسكرية بثقة كبيرة. وفي مدينتي الساقية وقلعة سنان اللتين تضمان معبري الحدود مع الجزائر، يتناقص عدد العابرين التونسيين فيما يتضاعف عدد الجزائريين القادمين إلى تونس لقضاء عطلة رأس العام. ثمة نسبة كبيرة من شباب شرق الجزائر تحلم بقضاء سهرات رأس العام في الحمامات ونابل والعاصمة، حتى أن ضابطا في شرطة الحدود والأجانب قال لنا: «يوم 30 ديسمبر، سوف ترى صفوفا طويلة من الجزائريين هنا».
نقص اليد العاملة
على أرض الواقع، لم نعثر على حديث يذكر حول المخاوف من الحدود. هنا، لا يعتبرون «تهريب الوقود» مخالفا للقانون، بل تجارة عادية منذ عشرات السنين، صحيح أنها تكثفت في الأعوام الأخيرة بسبب الفارق الهائل في ثمن الوقود بين الجزائروتونس، لكن هذه التجارة تتم علنا، حتى أن بعض محطات الوقود الشرعية أغلقت مضخاتها منذ سنوات لتتحول بدورها إلى عرض أواني الوقود الجزائري. لكن تهريب الوقود أو غيره لا يمثل حلا للبطالة المتفاقمة في الولاية والتي يمكن رؤية مظاهرها في آلاف الشباب العاطلين في المقاهي، أو المعتصمين أمام مبنى الولاية للمطالبة بالشغل. يتحول ضغط هذا الشباب إلى مشكل في ظل انسداد الآفاق وانعدام المشاريع المشغلة، يضاف إلى ذلك حالة الاكتئاب لدى الفلاحين بسبب تأخر موسم الأمطار. لكن انتشار البطالة أصبح يمثل مفارقة غريبة عندما يتحدث الفلاحون عن نقص اليد العاملة في الفلاحة وخصوصا جني الزيتون.
حدثنا أحد سكان تاجروين كيف أنه يطوف بشاحنة بحثا عن عملة مقابل عشرة دنانير في اليوم مع تأمين النقل والغذاء، وفي النهاية، وجد بعض ضالته في اليد العاملة النسائية. قال لنا هذا الكهل حائرا: «لا أفهم كيف يفضل أحدهم قضاء نهاره في المقهى يتسول السجائر بدل العمل مقابل عشرة دنانير في اليوم».
نقص اليد العاملة أصبح أيضا مشكلة لدى مقاولي الأشغال العامة، الذين يهددون بتعطيل مشاريع البنية الأساسية والمؤسسات العمومية في الولاية ويتحدثون عن عزوف الشباب خصوصا عن العمل في الحضائر رغم أن الأجر اليومي بلغ خمسة عشر دينارا. لكن المقاهي تعج فعلا بالعاطلين عن العمل، والحركة الاقتصادية تبدو بطيئة وسطحية، أهم مظاهرها تجارة الرصيف التي اكتسحت المدينة وحولتها إلى سوق شعبية ضخمة، تسبب اختناقا مروريا مدمرا للأعصاب وتخلف كل مساء أكداس الفضلات التي تعبث بها الرياح.
ريف فقير
وعلى ذكر الأوساخ والفضلات، فقد تندر سكان المدينة بندوة نظمتها النيابة الخصوصية يوم الأربعاء بمدينة الكاف حول «تسويق العمل البلدي»، قال لنا أستاذ تعليم ثانوي: «ينظمون ندوات وطنية فيما تتحول المدينة إلى ريف فقير بسبب حالة الطرقات المزرية، وتراكم أكداس الفضلات من كل نوع، هذا ما آل إليه مصير ثالث بلدية في تونس».
وبالفعل، تبدو مدينة الكاف في حالة مزرية من حيث المرافق وظروف العيش، أمام المستشفى الجهوي مثلا، ما تزال أكداس الإسمنت المسلح الناتج عن تدمير كشك في الفضاء العمومي في مكانها منذ أشهر، كأنها من مخلفات قصف حربي همجي. المدينة مليئة بالنقاط السوداء التي أفقدتها جمالها التاريخي في ظل انتشار التجارة الموازية على الرصيف وانتشار البناء الفوضوي سواء في الأملاك الخاصة أو الملك العام.
ثمة شيء يسير بشكل خاطئ في مدينة الكاف وولايتها، حيث الكل يعترف بأنها تضم ثروات فلاحية ومنجمية ضخمة بإمكانها أن تحولها إلى قطب صناعي وفلاحي، لكن مجرد عبور طرقات الولاية ومدنها يخلف في النفس إحساسا بأنها تسير إلى الوراء وتفقد من إمكانياتها كل عام أكثر.