عامان مرا على انتفاضة الكرامة، انتفاضة شعب مل الفقر وعاداه وكره التهميش والحرمان من خيرات بلاده. عامان مرا على انتفاضة الحرية لشباب ضاق بالقيد ولم يعد يحتمل القمع وتكميم الأفواه والخوف والذعر من اليوم الآتي. قيل إنها ثورة ربيعية عظيمة، ثورة الياسمين، ثورة لاحت وفاحت فوصلت نسائمها الى سماء جيراننا أو البعض منهم تحديدا. صدقا، هي ثورة، هي ثورة حقيقية في التعاطي الأمريكي الجديد مع منطقتنا العربية، ثورة في التقنيات المبتكرة للهو السي آي آي في ربوعنا، وثورة في التحالفات العجيبة التي صاغها البيت الأبيض في خضم ربيع أسود، تحالفات خيل لنا زمنا أنها مستحيلة لكنها صارت واقعا وحقيقة موجعة حتى الاغماء. قطعا كانت قراءتنا لهذه الأحداث الجديدة صناعة بارعة لنشرات الأخبار العابرة للقارات. هل يحتاج خيالنا لأفق أوسع وهل تحتاج عقولنا لبرودة أكثر، وقلوبنا لخفقان أقل، حتى نتعرف على هوية ربيع التكبير والتفجير ومدن الملاجئ الممتدة من الشرق الى عمق القارة السمراء، ربيع يسقط الدولة ويبايع مجالس الشورى ليفتوا في النكاح والختان والجواري الحسان وبيض الحوريات وقاصرات الطرف للمجرمين والقتلة سموا لغوا جهاديين ؟..
المعذبون في الأرض
عامان مرا، ودماء شهدائنا مازالت تتدفق ولم تُخمد حرارتها غرف تبريد الشرعية. رحل أثناءها، وبعد «الثورة» جريح «الثورة» محمد بن رمضان، لم يصمد أمام هول الصدمة، كما لم ينتبه أحد لمأساته التي لم ينهيها «ستانديق أوفايشن الكونقرس الأمريكي» «Standing Ovation». وفارق الحياة نقابيون ومناضلون اثر اضراب جوع، كانت أمعاؤهم الخاوية أصلا بمثابة السلاح النووي الوحيد. عامان مرا عبثا، قتل تحت التعذيب آخرون، وفقد بعضنا بصره، واغتيل أحدهم رفسا وعفسا تحت أرجل أبناء حيه وأهله وعشيرته، في مشهد سريالي يذكرنا بأفلام رعاة البقر، حين يركضون حول طريدتهم ويهتفون ويصرخون قبل سلخها. عامان بالتمام، ونحن نراوح مكاننا وزماننا ما قبل الرصاص والقناص. عامان مرا، انطفأت شمعة «نادية» وانفجر قلبها حزنا وقهرا، فحنجرتها ما انفكت تنبه منذ الأيام الأولى : «أفيقوا واستفيقو نحن في عين العاصفة، انه الشرق الجديد، نبوئة «رايس» ووعدها لشعب الله المختار. انه العراق، العراق من جديد، استيقظوا، هل هناك ثورة ربيعية تصدر الموت والدمار لليبيا وتشارك في عدوان أطلسي عليها وتتخفى في رداء الياسمين العطر ؟؟، هل هناك ثورة ربيعية تدير حلقات التآمر على سوريا العربية سرا وجهرا كمن يدير وكرا للدعارة ؟؟». صمتت نادية الى الأبد ورحلت، فالآذان موصدة والقلوب عمياء والعقول مجففة. بعد يوم واحد لحق بها كريم العليمي صاحب مقولة : «الحداد على بخت العباد»، اختار حبلا ليشنق نفسه كما شنقت ثورته، كريم مناضل حقيقي وليس «مضروب» أو ثوري 15 جانفي، ساهم في الانتفاضة بكل ما أوتي من عنفوان واستفاق بعد حين على فلم رعب من اخراج أمريكي محكم. أعزي فيهم نفسي وأعزيكم وأعزي بلدي تونس الخضراء قاسمة ظهر الطغاة. رحمهم الله جميعا، ورزقنا صبرا وحكمة.
هرمتم فانتصرتم
أيها المنتصرون، أيها الواهمون، أيها الهائمون، أيها الفاشلون، أيها المتواطئون، يا من كبرتم وهللتم لانقلاب واضح المعالم، وصفقتم للعبة شيقة أديرت من أروقة البنتاغون ببراعة ونفذت في الداخل بدهاء ودون ضوضاء. يا من رقصتم السامبا على حساب ملحمة شعب استمد روح مقاومته من قهر السنين ومن طوفان الغضب الهادر، ملحمة حُوِلَت حال ميلادها الى تخطيط مثلث الزوايا ومكعب الخفايا، في خلاصة هي كالآتي : «جماهير تتحرر من طوق الخوف وتقدم القرابين دفاعا عن الحياة، معانقة الهامات الصادقة لهبتهم وانصهار الأبناء الشرعيين لتونس الخضراء في لحظة تاريخية هرموا من أجلها وتحولوا الى مشاعل تحمل الحلم والذكرى دون الياسمين، انه البعث الجديد. أما الزاوية الثالثة والأخيرة وهي الأهم في هذا المثلث المفخخ، تحركات دودية وفئرانية في غور الأرض والأقبية المظلمة لخلايا مجهولة الهوية، قنصت الحدث وألغت الحلم والذكرى لجماهير شعب مغبون ودفعته نحو المجهول. وحتى لا يلعننا التاريخ، لن نغامر ونتناسى فضل كتائب فريدوم هاوس والمنظمات الأمريكية المهتمة جدا بمصيرنا. كل هذا يحدث على مرمى نظام متهاو منذ انتفاضة الحوض المنجمي، نظام لم يعد مسنودا الا من عصابات الأقارب والأصهار ومن جهاز أمن مخترق ومحيط سياسي مفكك وغير مضمون. بن علي كان يعي جيدا ساعتها أنه لم يعد «أمريكيا» ولسوء حظه، حين استفاق من صدمته كان يحلق في الجو نحو منفاه الأخير. أسئلة للذكرى وأخرى للنسيان
من يعرف هوية القناصة ؟، من ضرج الأرض بدماء الأبرياء وأعطى أمر الرصاص ؟، من أسند ثم روج صفة المقاوم والمنقذ للقائد ؟، من أعطى الأمر بايقاف العائلة المالكة، من دفع بن علي الى الطائرة الحائرة، ومن أقنع الغنوشي بضرورة مخاطبة الشعب ليلتها فوقف متلعثما، مرتعشا، متساقطا وأخطأ الاختيار بين الفصل والفصول ؟؟.
عامان مرا، ولنا أن نسأل، من جر الجماهير وبعض النخب الى بوتقة التأسيسي ومن دعا إلى القصبة 1 ثم القصبة 2 ؟، من أغرق شعارات ومطالب الثورة الحياتية البسيطة، «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق»، في يم من المهاترات السياسية والنزاعات الايديولوجية والسفسطة الفكرية الخاوية والمقيتة ؟. من قص الأكاذيب العجيبة وروج الاشاعات حول قدوم ليلى الطرابلسي عبر ليبيا مع جيش عرمرم لاستعادة تونس؟ ومن قال إن القذافي سيغزونا بجيشه المفقود ؟
لماذا فتحت التلفزات بلاتوهاتها الى قصائد المدح الامية والبائية واليائية للمسيرة النضالية الخرافية للجماعة وكأنهم ورثة جيفارا وأحفاد الحكيم جورج أو باتريس لوممبا، ولماذا تنكرت بصفاقة الى أعمدة النضال الوطني والديمقراطي والحقوقي فغيبت مسيرتها تماما وفيها من رحل في صمت ومن يعيش الآن في ألم. ولما انخرط «الثورجيون» في هذه السلامية الرديئة التي لا تنطلي الا على مواليد 7 نوفمبر87. التاريخ الحي يشهد أن «نضال الاخوان» كان مختصرا في التفجيرات وعمليات الترهيب للشعب والتهديد للدولة، من محاولات انقلاب على النظام الذي حكم في الحقبتين الماضيتين الى الاعتداء على الأبرياء باختلاف الجنسيات. هل يمكن نسف التاريخ بهذه السهولة وهل يمكن أن يكون الثمن هو دمنا. ما سر التشكيلات الجمعياتية التي أسست ابان 23 أكتوبر بشتى الأنواع والمهام والصفات والأدوار والصفقات ومصادر الأموال التي أغرقت البلاد دون أن توفر رغيفا وزيتونا لأهلنا من بوزيد للكاف لبن قردان؟؟.
ما قصة بعض رجال الأعمال والأموال الذين نهشوا لحم التونسيين في الحقبتين المنقضيتين ولم يربكهم أي تحول في البلاد فوطنهم مضمون وآمن في حساباتهم البنكية وما سر أدوارهم المشبوهة ومقاعد الامتياز المعهودة لهم في كل الأحوال.
العهد هو العهد والقسم هو القسم
نحن نقص حكاية شعب أراد الحياة، فتنكر له القدر، شعب له حق وله ثأر وله الأيام المقبلة. دماؤه لن تبرد ولن تهدأ قبل أن تنكسر آلهتهم على أسوار مساجدنا. ربنا الأكرم أعلى وأقدر على مشايخ الغاز والفتاوى الغادرة. العهد هو العهد لشهدائنا، لن يكونوا أرقاما في دفاتر تجار الكتب الصفراء والعهود الغابرة. صبرا آل تونس، فتونس لن تركع للولي المرشد ولا لقبضة رعاة البقر وتجار الابل. لنا في الأفق زغاريد الثكالى والأرامل وأناشيد يتامى الشهداء وأهازيج الكادحات عند الفجر تصعد كالحمائم للسماء. ولنا أسود في الجنوب وفي الشمال والوسط وعند الغروب، وعلى الحدود، لنا أسود لن يبيعوا خواتم حبيباتهم من أجل السلال الفارغة.