قال صاحبي : أنت تعرف أنني أتوسم حسن النية في الآخر، محاولا الإفادة من القيم الإسلامية النبيلة، معتقدا أن من يعلن مظهرا وقولا أنه يمثلها هو أقرب الناس إلى السير على هديها، ولكن الممارسة اليومية تخالف ذلك تماما. حرصت دائما على ريادة المساجد كلما سنحت الفرصة لما أجده في فضائها من هدوء وسكينة، ولكنني هجرتها أخيرا لما غزاها الهرج، وانتشرت فيها لغة البذاءة والدناءة باسم الإسلام !!
لا أكتمك سرا أنني وجدت نفسي كصالح في ثمود.
قلت : لماذا؟ قال صاحبي : أنا، كما ترى، حليق اللحية، وأصبحت اللحى، وما تفوح به من روائح، تحاصرني يمينا ويسارا فحاولت إسبالها انضماما إلى صفوف الأتقياء، ولكن رفيقات الدرب أعلن «الفيتو»، وهددن بالقطيعة، ومما شجعني على هجرة المساجد ما شاهدته من معاناة يومية عاشها أحد الأجوار لأنه اضطر لظروف معيشية صعبة أن يتحمل في المرحلة السابقة مسؤولية حزبية في أسفل السلم فنبش الثوار الجدد عن ماضيه، وأصبح يسمع، وهو في الصلاة، لغة السفاهة والقبح، وهنا تساءلت : إذا كان الحديث عن قانون «تحصين الثورة» يفرق بين المصلين، فماذا ستكون انعكاساته غدا على المجتمع ؟ قلت : أبادر قائلا : متى كانت اللحى تصنع التقاة ! أعود لسؤالك قائلا : إن قرار حماية الثورة جاء في بداية الأمر مستجيبا لوضع سياسي غامض سمته الأساسية غياب مؤسسة شرعية، وسلطة تنفيذية منبثقة عنها، أما بعد الانتخابات فقد تغيرت الأوضاع، وأصبحت السلطة القائمة هي الساهرة على حماية الثورة والبلاد كلها، وأود الإشارة هنا إلى أن تجارب الثورات الشعبية قد برهنت أكثر من مرة أن القوى التي أشعلت الفتيل هي التي حمت الثورة، وكشفت المتاجرين بشعاراتها لأسباب سياسوية. التحصين حلبته المنطقية الصراع السياسي، أما الإقصاء الجماعي بنص دستوري فهويعني أمرين متناقضين مع مفهوم الثورة : 1 الوصاية على الشعب، واعتباره قاصرا، وبهلولا في عالم السياسة لا يفرق بين من معه ومن ضده، وهذا يتناقض مع الخطاب الذي يؤكد، وضمنه الخطاب الاقصائي، أن شعبنا واع، وكفء بأن يخوض تجربة ديمقراطية. 2 حرمان فئة اجتماعية من حقوقها السياسية والمدنية يغذي الأحقاد، ويقذف بالناس في مستنقع تصفية حساب الماضي عوض الاتجاه إلى بناء المستقبل، ثم الإقصاء الجماعي سيظلم كثيرا ممن سيتم إقصاؤهم، إذ نجد ضمنهم من حاول بأسلوبه الخاص دق إسفينا في نعش النظام السابق، فقد أصبح معروفا أن كثيرا من المعلومات الدقيقة الفاضحة لما كان يجري في البلاط صادرة عن عناصر من داخل الجهاز، وهكذا تستطيع أن تقول : إنها أسهمت إلى حد كبير في تقويض أسس النظام، وقد حدث ذلك في بلدان أوروبا الشرقية فكثير من «المنشقين»، والهاربين كانوا مسؤولين في الأحزاب الحاكمة. إن المواطن ينتظر دستورا لجمهورية جديدة ترنوإلى المستقبل، ولا تلتفت إلى الماضي، إن الحديث عن الماضي من مهمة المؤرخين. قال صاحبي : هل هذا يعني طي صفحة الماضي، ورفع شعار «عفا الله عما سلف» ؟ قلت: لا، أبدا، فلا مفر من محاسبة من شارك في القمع، والتعذيب، ونهب المال العام، ولكن عبر قضاء مستقل وعادل، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة المصالحة. قال صاحبي : هل هنالك تجارب تاريخية يمكن أن يفيد منها الحكام الجدد ؟ قلت: يتحدث الناس كثيرا هذه الأيام عن القيم الإسلامية، لذا سأذكر بتجربة تعود إلى عصر التأسيس، وبصفة أدق إلى فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، فلما فتح الرسول (ص) مكة، منتصرا على مشركي قريش، وعلى المتحالفين معهم، ظن كثير من الناس أن باب الثأر قد فتح، ولكن المفاجأة كانت كبيرة لما خاطب سكان مكة قائلا : «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، من دخل المسجد فهوآمن، ومن دخل، دار أبي سفيان فهو آمن، فأصبحت دار العدو اللدود للدعوة الجديدة حرما مثل الكعبة ! ونجد ضمن الطلقاء هند بنت عتبة (ت عام 14 ه) زوجة أبي سفيان التي دبرت اغتيال حمزة عم الرسول (ص) في غزوة أحد، وبقرت بطنه، ولاكت كبده، فسميت بعد ذلك بآكلة الأكباد.
أود هنا أن أنزل هذا الموقف التاريخي في بعده الاستراتيجي، مشيرا إلى شروع السلطة الجديدة في المدينة في تنفيذ خطة نشر الدعوة خارج الجزيرة العربية، وتمت الخطوة الأولى شهورا قليلة قبل فتح مكة في غزوة مؤتة في أرض البلقاء من بلاد الشام، وقد كانت خاضعة للبيزنطيين، فلا يمكن أن تنفذ الخطة الجديدة إلا بعد أن تتوحد الجزيرة، وتنضم قريش إلى الدعوة الجديدة، ملاحظا أن النبي (ص) تصرف يوم الفتح بصفته بشرا قائدا، وليس رسولا، وعلماء الإسلام يميزون بين الحالتين منذ القديم، إنها بإيجاز حكمة القيادة، وسمو النفس.
قال صاحبي : أليس من المفروض أن أنصار الإسلام السياسي، هم أقرب الناس إلى التعلق بمثل هذه القيم النبيلة ؟ قلت: من المفترض ذلك، لكن ابحث عن الجواب في عالم الممارسة، وليس في عالم الافتراضات !