قد يغادر السيد رفيق عبد السلام الفريق الحكومي، لكن تعيينه وزيرا للخارجية في أول حكومة نهضة بعد الثورة طرح علاقة حكام تونس بأهاليهم وأقاربهم في بلد ما يزال يعاني من حساسية شديدة تجاه كل تداخل بين العائلة والسلطة. لا يتوقف مشكل التداخل بين علاقات العائلة والسلطة عند حد تعيين صهر زعيم حركة النهضة في وزارة سيادة، بل تظهر بين الحين والآخر أحداث مماثلة في ثلاثي الحكم تعيد إلى أذهان الناس المخاوف والجراح التي لم تشف بعد من إطلاق أيدي «العائلة» في السلطة، ولا شك أن إطلاق الكثير من الإشاعات له ما يبرره في تاريخنا القريب، حتى أن خصوم ثلاثي الحكم كثيرا ما يطلقون عليهم عبارة «الطرابلسية الجدد» التي تختزل خوف الناس، وهو خوف له ما يبرره منذ عهد الزعيم بورقيبة.
نساء في القصر
ثمة نوع من الإجماع على أن الزعيم بورقيبة قد أبقى أقاربه بعيدا عن السلطة وحرمهم من منافعها، رغم صلاحياته الواسعة طيلة عدة عقود، باستثناء أواخر حكمه عندما تولت شؤونه ابنة أخته سعيدة ساسي. وأيا كان نفوذ هذه المرأة على الزعيم بورقيبة، فإنه في الواقع لم يسمح بتكليفها بأية مسؤولية رسمية في الدولة رغم ما ينسب لها من أدوار هامة في الحركة الوطنية ومن انخراط كامل في النضال ضد الاستعمار منذ وقت مبكر. وأيا كانت استفادتها من رئاسة خالها، فإنها مثل عدد قليل آخر من أقارب بورقيبة ظهروا في المرحلة الأخيرة من حياته التي أصيب فيها بالخرف ولا يمكن اعتبارها مقياسا على تفضيله أقاربه في إسناد المسؤوليات. لكن الموقف الأشد قوة في حياة بورقيبة هو طلاقه من زوجته وحبه الوحيد والكبير وسيلة بسبب تدخلها المستمر في السلطة بشكل خفي، حتى أن البعض كان يصفها بأنها «حزب معارض في بيت نوم الرئيس» لما تفعله من تدخل قوي في قراراته، وراج أنها تملك شبكة علاقات أشد قوة من الحكومة نفسها، وتتجاوز صلاحياتها كل الوزراء.
الابن الوحيد
عندما استلم بورقيبة حكم تونس في 1956، عين ابنه الوحيد الحبيب بورقيبة الابن سفيرا لواشنطن، وكان يمكن لأول وهلة اعتبار ذلك شكلا واضحا من أشكال استغلال السلطة لتعيين الأقارب، لولا حقيقة شخصية بورقيبة الابن وكفاءته المهنية والسياسية التي ضاعت في ظل هيبة وسمعة أبيه التي تخطت حدود البلاد.
لم يكن «بيبي» وهي كنية الحبيب الابن، طفلا مدللا، فقد عاش «ابنا وحيدا» محروما من أبيه المتنقل بين المنافي والسجون، ولم يحظ بحياة عائلية تقريبا، وفي المقابل، كشف عن كفاءة عالية في الدراسة ثم في الإدارة منذ وقت مبكر، وكثيرون يجهلون أنه أول من أدخل الإعلامية للبلاد وهو مؤسس المدرسة الوطنية لعلوم الإعلامية ومعهد علوم الإعلامية بتونس وله الفضل في تأطير المئات من إطارات الدولة الجدد، وهو من رواد جلب الاستثمارات الأجنبية إلى تونس، ومؤسس أحد أشهر بنوك الاستثمار. ورغم ذلك فقد كان والده يعامله بقسوة شديدة ويفرض عليه حياة التقشف حتى أنه حرمه من قرض بنكي لشراء منزل وهي حادثة شهيرة في حياته. لقد كلف الزعيم ابنه بعدة مسؤوليات حكومية مثل وزارة الخارجية، لكن ذلك لم يكن للمحاباة، بل لكفاءته المشهود بها، وعلاقاته الجيدة مع زعماء كثيرين عبر العالم. وفي جانفي 1986 أبعده أبوه نهائيا عن عالم السياسة ولم يصدق شيء من التكهنات الكثيرة حول خلافة أبيه وبدا أن كفاءته قد ضاعت في ظل سمعة أبيه الكبيرة، حتى أنه اختفى في صمت ولم يعد إلى عالم السياسة حتى توفي ودفن في المرسى وليس في مقبرة آل بورقيبة.
لكن بورقيبة الذي عامل ابنه الوحيد بقسوة، فتح الباب في المرحلة التي تكاثرت فيها أمراضه لشكل آخر من أشكال استفادة الأقارب من السلطة، وهو الانتماء الجهوي.
الوزير الأول وزوجته الوزيرة
الآن، تسمح لنا المسافة الزمنية بأن نرى بوضوح كيف غلب بورقيبة الانتماء الجهوي والأحلاف الجهوية وحتى العائلية في تسميات الوزراء والمسؤولين. إن وزراء من أمثال الهادي نويرة مثلا لا يعلم عنه أنه سمح بإطلاق أفراد من عائلته في السلطة، لكن خلفه محمد مزالي الذي كانت زوجته فتحية مزالي وزيرة للمرأة في حكومته.
والحقيقة أن فتحية المزالي لم تكن غريبة عن عالم الحكم منذ بداية خمسينات القرن الماضي، لكنها تقدمت في ظل نمو مقاييس الولاء والمصاهرة حتى تولت وزارة المرأة في حكومة زوجها.
ولئن لم يعرف عن المزالي أنه استوظف أحدا من أبنائه أو أقاربه المباشرين في الحكم، فإنه سمح للولاء الجهوي بالتطور في السلطة، في ظل الصراع على خلافة بورقيبة الذي انتهى بهرب المزالي وظهور بن علي وزيرا للداخلية ثم رئيسا منقلبا على الزعيم الذي لم يعد قادرا بالفعل على الحكم. ومع بن علي، اكتشف التونسيون شكلا متطورا من استغلال الحكم لإطلاق أيدي الأقارب في السلطة والمال العمومي بما جعل من بلادنا مضرب الأمثال في الفساد السياسي والمال.
أكلوا الأخضر واليابس
اقترنت صورة بن علي في بداية ظهوره السياسي بالأمن ووزارة الداخلية، كما اقترنت سمعته بصورة أخيه المعروف باسم المنصف، والذي تدور حوله حكايات مثيرة عن تورطه في تجارة المخدرات والتهريب والتدخل في مسالك التوزيع واستغلال سلطة أخيه في الحصول على احتكارات تجارية ووساطات متعددة في مجال التهريب ورخص المشروبات الكحولية. لكن علاقته بأخيه الذي أصبح رئيس دولة التي أنقذته مرارا من القضاء الفرنسي والدولي لم تنقذه من الموت بطريقة فظيعة وغامضة ما تزال سرا من أسرار الدولة. كما اقترنت صورة زين العابدين بن علي في بداية حكمه بإطلاق أيدي أبناء أشقائه وشقيقاته في البلاد، حتى أصبحت مدينة حمام سوسة مرجعا غير رسمي لكل أشكال الرخص التجارية والاحتكارية والتهريب بكل أصنافه. ومنذ بداية التسعينات، ازدادت الصورة قتامة بظهور أقارب زوجته الجديدة ليلى الطرابلسي الذي «أكلوا الأخضر واليابس» باسم الرئيس، حتى أنهم وضعوا قانونا غير معلن في البلاد يمكنهم من فرض أتاوة على كل استثمار يفوق 500 ألف دينار في البلاد.
لقد تم كل ذلك الفساد بمباركة رسمية ومعلنة من الرئيس بن علي، وسوف يبقى للتاريخ قولته الشهيرة لأحد وزرائه الذي همس له بأن «بعض أفراد العائلة قد أفرطوا» في النهب، فقال له بصرامة ما مفاده: «لقد عاشوا محرومين وآن لهم أن يحسنوا أوضاعهم»، وكانت تلك واحدة من أفظع صور الحاكم الذي يطلق أيدي أقاربه في خيرات البلاد والعباد بلا حسيب ولا رقيب.
حساسية من القرابة
إن هذه الصورة هي التي تدفع الناس اليوم إلى النظر بريبة ورفض لكل تداخل بين السلطة والعائلة، ومنها تعيين صهر زعيم النهضة في وزارة سيادة، وقتها يستعيد الناس أية كفاءة مفترضة للشخص القريب ويستعيدون المآسي التي عاشوها بسبب علاقات القرابة في السلطة، وهو ما جعل كثيرين لا يهتمون بكفاءة السيد رفيق عبد السلام، ويقولون «ألا يوجد في تونس من الكفاءات سوى زوج ابنته ؟». كثيرون يعتقدون أن الغنوشي قد وفر لخصومه مبررا للهجوم عليه، وأنه كان من الأفضل تفادي مثل هذا التداخل المثير لريبة الناس. الغريب أن معلومات كثيرة تظهر في الساحة عن علاقات قرابة أخرى كثيرة بين أعضاء الحكومة، وهي علاقات لا يستطيع الناس أن يجردوها من الولاء والتحالفات العائلية وإيثار الأقارب في المسؤوليات الحكومية. كما تورط ثلاثي الحكم في أحداث لا يمكن فهمها سوى بأنها شكل جديد من استغلال السلطة لفائدة الأقارب، مثل ظهور أحد أقارب مستشار الرئيس المرزوقي سمير بن عمر وهو يقود إحدى سيارات الرئاسة، كما تعرض الوزير عبد الوهاب معطر إلى حملة ضارية لأنه سارع بانتداب ابنته مستشارة له في ديوانه، وهو خطأ سياسي كبير أثبت أن الرباط العائلي لا يزال يحافظ عندنا على كل قوته حتى في زمن الثورة التي قامت من جملة ما قامت ضدّ المحسوبية قرينة الفساد.