تطوّرت القراءة لا في مفهومها التقليدي... بل بوصفها معرفة من المعارف الحديثة يمكن تعريفها بصفتها جملة من الآليات والمعارف التي تتيح إنتاج معطى ثالث هو نتاج التفاعل بين القارئ والمقروء. ولا يبقى النصّ في هذه الحالة حمّالا لما يريده كاتبه فقط، بل يصبح القارئ شريكا فاعلا ومبدعا خلّاقا ليس يقلّ قيمة عن الكاتب بل علّه بات يتنازع معه القيمة الإبداعيّة للمكتوب المقروء.
وإذا انطلقنا مما أقره الفيلسوف بول ريكور من أن كلّ ما في العالم من ظواهر مادية أو سلوكية جاز أن نتعامل معها بصفتها علامة، ضمن أنظمة شتى من العلامات، جاز لنا أن نقرأ شتى المنجزات الفنّية سواء كانت لوحات تشكيلية أو منحوتات أو صورا فوتوغرافية.
أو أشرطة سينمائية أو معزوفات وكلّ ما يمكن أن ينجزه عقل الانسان وروحه وجسده في محيطه وأن نخضعه للتفسير والتأويل، مع مراعاة خصائص كل فنّ. في هذا الإطار استوقفتنا لوحة الشريط الوثائقي الذي عرضته الجزيرة الوثائقية مؤخّرا حول الزعيم الرّاحل صالح بن يوسف، وقد أخرجه الأستاذ جمال الدلالي الذي عوّدنا دائما برغبته في إماطة اللثام عن قضايا شائكة وموضوعات مثار جدل، إذ سعى في بعض أعماله إلى تحريك السّواكن ورجّ الثوابت وإماطة اللثام عن المسكوت عنه في جوانب غامضة من تاريخ تونس.
وقد كانت لنا وقفة سريعة مع بعض أعماله، مثل شريطه حول «فرحات حشاد» ونهاية عرش الذي اهتمّ فيه بحياة المنصف باي.ولئن مثل الشريط اضافة للمكتبة السنمائية الوثائقية في الوطن العربي« باعتبارمنحاه الذي يجنح إلى زعزعة الثابت التاريخي،فإن ما تمرّ به البلاد التونسية من أحداث واضطرابات عقب ثورة 14 جانفي جعل الشريط لا يحظى بما نتصوّره له من اهتمام رغم خطورة ما يطرحه من الناحية التاريخية من جانب، ونظرا للتطور الحاصل في مستوى التوثيق والعرض والإخراج من جانب ثان .ولا بدّ من الإشارة هنا الى مسألة مهمّة في التعامل مع الشريط الوثائقي وتتمثل في الاهتمام بالشحنة الفنية التي يتوفر عليها هذا النوع من الاشرطة زيادة عن نهوضها بالجانب التوثيقي باعتبار أنّ الشريط الوثائقي هو عناق بين الجمالي والتاريخي أو هو التاريخ مقدم في لبوس جمالي .أو لنقل هو العناق بين البعد التسجيلي والبعد التخييلي..
ومهما تعدّدت وجهات النظر بخصوص هذا الفيلم فإن تتويجه في البحرين في الاونة الأخيرة وحصوله على الجائزة الذهبية يؤكّد ما لهذا الشريط من قيمة.. ويتمثل عملنا هنا في محاولة قراءة سيميائية للوحة الشريط، وهي مدخل أساسيّ من مداخل قراءة الفيلم الذي هو في جانب كبير منه صورة تحاول استيعاب حقبة تاريخيّة بكلّ ما فيها وما حفّ بها من أحداث جسام، ومعلوم أن الصورة مؤهّلة لتتكلم لغتها الخاصّة التي تجعلها تفي بالغرض حتى ولو كانت صامتة وتمدّ بينها وبين متلقيها جسورا خاصة، قد لا تمدها اللغة المتداولة.
الى أيّ مدى يمكن اعتبار عنوان الشريط ولوحته من قبيل العتبات les seuils؟ولم لا يجوز لنا ذلك، اذا انطلقنا من أنّ القراءة قراءة سواء كان المقروء نصّا أو لوحة تشكيليةأو شريطا سنمائيا، أو حتى موقفا دراميّا.
وإذا تأمّلنا هنا اللوحة موضوع الشريط، في مستوى الألوان والأيقونات أو الصّور المصاحبة آخذين بعين الاعتبار أن بعض الصور مرّت وبحكم حوادث تاريخية معلومة مرّت من مجرّد صور لأشخاص أو عناصر طبيعية أيقونات، أمكن لنا أن نقول إنّ شجرة الأرز في علم لبنان لا تحضر مجرد نبات بل إنها موصولة في الأذهان بمفهوم الأصالة والرفعة والانتماء، كما أنّ صورة النسر مثلا في علم مصر تتجاوز مجرد دلالة الطير الجارح لتصبح محيلة على العزة والنخوة والقوّة، كما أن صورة صالح بن يوسف في عيون التونسيين، لايمكن أن ينظروا إليها دون أن تقفز الى الذّاكرة فكرة المؤامرة الاستعمارية الفرنسية، والجريمة الغامضة النّكراء والصراع اليوسفي البورقيبي والتجاذب الايديولوجي، واختلاف وجهات النّظر حول مسألة الاستقلال الداخلي والكفاح المسلّح وكذلك البعد العروبي واختلاف الموقف بشأنه في رؤية الرجلين.