الآن وقد بدأت تنكشف خيوط اغتيال الشهيد شكري بلعيد، فإن سؤالين على الأقل يجب التركيز عليهما الآن: الأول يقول لماذا لم تشهد تونس بين 14 جانفي 2011 و23 أكتوبر من نفس السنة أي عنف سياسي رغم تشنج الأعصاب، وحقد النفوس، وغليان الدماء؟ والثاني يردّد لماذا أصبحت تونس بعد 23 أكتوبر، وبعد اعلان نتائج الانتخابات، وبعد بعث حكومة، مرتعا للعنف والارهاب والاغتيال؟ إنه لمن المحيّر حقا أن تمرّ بلاد بأخطر فتراتها بسلام، وأن تعلن فيها «الحرب» بعد الفترة التي يفترض أنها فترة إقامة سلام دائم وإنه لجدير فعلا بالنخبة السياسية الديمقراطية حقا أن لا تسكت عن هذا الأمر، وأن تمحّصه، وتدرسه، وتأخذ على ضوئه مواقف وتخطّط لسياسات. وبوضوح فإن المسؤول عن هذا الوضع الخطير هي الترويكا أوّلا، ثم عناصر عديدة في المجلس التأسيسي والترويكا مسؤولة لعدة أسباب منها:
أنها تدير شؤون البلاد أن بعض أطرافها متواطئ سواء مع ما يسمّى بروابط الثورة أو مع التيارات الدينية المتشددة. أن بعض أطرافها مدان مباشر بعمليات عنف مادي تجاه أحزاب وجمعيات مدنية. أن بعض أطرافها تنظّر للمسؤولية الجنائية الفردية للعنف وليس للثقافة التي تحركه أو للأحزاب أو الجمعيات التي ينتمي إليها عناصر ممارسة العنف، وهي بهذا الطرح تتلاعب بما هو مكشوف، أو هي تجهل ما هو مطلوب، وفي الحالتين فإن النتيجة واحدة.
هذا بالاضافة الى الخطاب السياسي للترويكا الذي يحضّ على العنف، ويحث على الاعتداء، إن بطريقة سافرة أو بالايحاء والترميز. ومع الترويكا تبرز مسؤولية عدّة عناصر بالمجلس التأسيسي، ينضاف اليهم بعض مستشاري رئيس الجمهورية المؤقت ذاته، من الذين امتهنوا الانفلات اللغوي، والتسيّب السياسي، والسلوك البوهيمي الذي يدعو الى الفوضى، ويحرّض على المختلفين معهم، ويتستّر علىممارسي العنف والإجرام، ويطمئنهم سياسيا، ويغطّي على أشخاصهم وأفعالهم معا.
فهؤلاء وبعض الأحزاب الأخرى كثيرا ما نسّقوا مع ما يسمّى بالروابط، وقابلوا عناصر منهم، وتحدّثوا معهم من وراء ستائر وحجب بدعوى حرصهم علي حماية الثورة، وبحجة الوقوف ضد قوى الثورة المضادة، متجاوزين في ذلك صفاتهم الشرعية وهياكل الدولة الموكول لها التصدي لأيّ كان وقوّات الأمن لعلمهم أن هياكل الدولة وأجهزتها إما أنها لن تقبل بمهام كهذه، أو أنها سوف تفضحها ذات يوم أو ظرف.
كما إن هؤلاء قلّلوا كلهم من مخاطر التطرف خصوصا الديني منهم، ونظّروا لعكس ما جُبل عليه المتطرفون، واجتهدوا لكي يُتفّهوا خطره، ويقلّلوا من نتائجه المأساوية، تارة بدعوى عدم علم الناس بتنوّع الفكر الأصولي، وطورا بدعوى أن الذي يقوم بجريمة هو المسؤول الأول والأخير عنها، وبالتالي فإن من يدعو الى عكس هذا انما هو منظّر للعقاب الجماعي، ومريد لتبرير الاستئصال واجتثاث التيارات التي لا تروق.
وهذا التبرير «السياسوي» هو الذي زاد في تهوّر المتهوّرين، وفي جرأتهم على الناس، وفي تصاعد أعمالهم من مجرّد التحريض والتظاهر الى العنف المادي المباشر، وصولا الى الاغتيال. ولقد مثّل السكوت عن اغتيال المرحوم لطفي نقض، بل وتبريره، واعتباره عملا ثوريا بداية لعمليات أخرى تتم في وضح النهار، وبكل صفاقة، وبلا أدنى خوف من العقاب، وسبقت هذه العملية عملية ثوريّا خطيرة ومتواصلة ضد حزبه نداء تونس وهو ما تورّط فيه مباشرة أشخاص حول السيد المنصف المرزوقي الذي يفترض أن لا يضع فقط حدّا لهذا الأمر بل أن لا يصدر عمّن حوله من الأصل مثل هذا السلوك الأرعن والبوهيمي.
لذلك يبدو منطقيا أن تسعى عدة أطراف الى الشتبّث بالاقصاء حتى يتشكل المشهد السياسي القادم حسب مشيئتها هربا من المساءلة وتحصّنا من التتبعات القضائية، فما خفي في هذا المضمار كان أعظم.