فرنسا هي الشريك الاول لتونس، وهي الجار الأقرب، وهي البلد الأكثر تأثيرا وتأثرا على تونس، وعلاقاتها مع تونس تكاد أن تكون عضوية، وكل سياسة تجاهها يجب أن تنطلق من هذه الحقائق، وكل ايماء الى الزمن الاستعماري، وكل همز ولمز حوله، إنما هو من باب المزايدة التي لا يمكن ان تأتي الا بالضرر لمصالح تونس أوّلا. ثم إن تلك الحقبة أصبحت من التاريخ، ولو كانت الشعوب تحاسب بعضها البعض على مراحل أتى عليها الدهر، فكيف سيكون حساب بلد مثل اسبانيا مع العالم العربي والاسلامي كلّه بعد اقامة على أراضيها دامت ثمانية قرون بالتمام والكمال، نحن نسمّيها بالفتح وهم يرونها استعمارا استيطانيا مقيتا. ولكن إسبانيا تقيم علاقات جيّدة مع هذا العالم، وتدافع عن القضايا العربية، ولطالما ساندت القضية الفلسطينية ودافعت عنها في جميع عهودها، حتى في عهد الجنرال فرانكو. فالدول يجب أن يكون لها وعي بالتاريخ، وبالحاضر والمستقبل معا. لذلك فإن الحديث عن الماضي، خصوصا إذا كان متشنجا، ونواياه مشكوك فيها يصبح لا مسؤولا،ولا يمكن لفرد أو لحزب مهما كان تأثيره ومهما كان موقعه ان يحدّد مصالح تونس، وأن يضبط سياساتها وأن يجرّها الى التصادم مع الحلفاء أو الاصدقاء. ولا يمكن لهما أن يضبطا المصلحة الوطنية على مقاس ما يفكران فيه، وأن يحدّداها حسب ما يؤمنان به، فالمصلحة الوطنية أشمل بكثير.
وإذا كنا جميعا قد صدمنا بسبر الآراء الشهير الذي تم مؤخّرا في فرنسا والذي أثبت أن 74٪ من الفرنسيين يعتبرون الدين الاسلامي غير متسامح، ووقفنا طويلا أمام تصريحات وزير الداخلية الاخيرة، فإن ذلك كلّه يدعو الى تشريح الأسباب الكامنة وراءها، واصلاح ما فينا، والحوار المتواصل مع النخب الفرنسية المؤثّرة، حوار هادئ ومقنع، وبأسلوب متمدّن وحضاري، منطلقه أن فرنسا هي شريك تونس الأول، وأنها المدخل للفضاء الاوروبي كلّه، وأنها بلد صداقةمضمونة.
وإذا كان من بيننا من يتصوّر أن الدور الفرنسي يتراجع لصالح تأثيرات أمريكية سواء في تونس أو في غيرها من بلدان المغرب العربي، فإنه للحقيقة واهم، ليس فقط لأنه في ساعات الجد ينسّق هذا وذاك مواقفه وسياساته حسب مصالح الطرفين والأولوية فيها منطلقاتها اقتصادية وثقافية وتاريخية، بل أيضا لأن الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة تحتاج أولا الى الطرف الفرنسي تماما كما اجتاحته في مناطق أخرى إن في الشرق الأوسط أو في الخليج العربي. ثم إن تلك التصوّرات التي هي في أذهان بعضنا، تعقبها سياسات تضع تونس تلقائيا في معادلة تجاذب سياسي بين قوى كبرى. وهنا يكمن خطأ كبير، لذلك فإنه لابد من فهم العالم، وإعمال العقل في هذا المضمار، وحساب كل موقف بحجم بيض النمل كما يقال.