بين باجة وتونس.. إصابة 8 أشخاص في حادث مرور    ماكلة تجم تولي سامة كي تحطها في الثلاجة    إيران تتوعد إسرائيل بهجوم عنيف ومدمر خلال ساعات    أنس جابر تتأهل للدور الثاني ببطولة برلين المفتوحة بعد مواجهة درامية    صحة واحدة: نحو بلورة خطة عمل مشتركة بين وزارات الصحة والفلاحة والبيئة    العثور على شقيق فنانة معروفة جثة هامدة داخل منزله والنيابة تأذن بفتح تحقيق    كارثة فنية في إيطاليا: سائح يدمّر كرسي "فان جوخ" المزخرف بكريستالات سواروفسكي    مشروع قانون أساسي جديد للهياكل الرياضية محور مجلس وزاري    طقس الليلة    تونس تسجل قفزة ب61% في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بين 2020 و2024    بشرى سارة للتونسيين: إطلاق سفرات تجارية جديدة بين تونس وباجة بداية من هذا التاريخ    فضيحة في بنزرت: ضبط ري المزروعات بمياه الصرف الصحي غير المعالجة واستخدام قوارير الغاز المنزلي بشكل غير قانوني    مأساة في سوسة: شاب يفقد حياته تحت عجلات القطار    رسميا: لسعد الدريدي مدربا جديدا للنجم الساحلي    مداهمات أمنية بين باردو وخزندار تطيح بعناصر إجرامية خطيرة وحجز مخدرات وأسلحة بيضاء    تناقلها رواد التواصل الاجتماعي: عملية "براكاج" تكشف عن تضرر عشرات المواطنين    بن عروس: توصيات ببعث مركز لتجميع صابة الحبوب بالجهة خلال موسم القادم بهدف تقريب الخدمات من الفلاحين    للمشاهدة المجانية : تعرف على تردد قناة DAZN لمباريات كأس العالم للأندية 2025    رسميا: شبيبة العمران تكشف عن هوية المدرب الجديد لأكابر كرة القدم    الجيش الإيراني يعلن إسقاط مقاتلة F-35 إسرائيلية لكن مصير طيارها لا يزال مجهولا    كأس العالم للأندية: تشكيلة الأهلي المصري في مواجهة إنتر ميامي الأمريكي    ليبيا.. المشري يستنكر عرقلة "قافلة الصمود" ويدعو لاحترام الإرادة الشعبية    عاجل/ إيران: إعتقالات في صفوف عملاء لإسرائيل    الصين وإفريقيا تصدران "إعلان تشانغشا" لتعزيز التضامن بين دول الجنوب    قابس: الحاجة ملحة لتحسين وضعية العديد من الطرقات المرقمة بالجهة (رئيس الجمعية الوطنية للسلامة والأخلاق المرورية)    غدا.. انقطاع التيار الكهربائي عن بعض المناطق بسوسة والمنستير    وزارة الأسرة تدعو إلى تكثيف جهود التربية على ثقافة احترام حقوق كبار السن ومناهضة العنف المسلط عليهم    طاقم حكام آسيوي يدير المباراة الافتتاحية في كأس العالم للأندية 2025    عاجل/ كان بصدد الفرار: الإطاحة برجل أعمال معروف محكوم بالسجن في قضية التآمر    دورة النرويج الدولية للشبان لكرة الطاولة: التونسي وسيم الصيد يحرز فضية مسابقة الزوجي مختلط    الإعلان عن المتوجين بالجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل    بالأرقام والأسماء.. خسائر إسرائيل وإيران في يومين من المواجهة الساخنة    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    القيروان: جلسة توعوية للإحاطة بالمترشحين لمناظرتي "السيزيام و"النوفيام "    الأسبوع البورصي : تراجع في أداء توننداكس    تسجيل خمس حالات وفاة بين الحجيج التونسيين حتى الان    احتجاجات أمريكا : رئيس الفيفا يدلي بهذا التصريح قبل انطلاق كأس الأندية    عاجل/ "خرج عن السيطرة": نداء استغاثة بعد انتشار مرض الجلد العقدي بين الابقار بهذه الجهة    مساء اليوم : المالوف التونسي ....يشدو في باريس    صفاقس : تزويد السوق بالمواد الإستهلاكية مرضي.. وتسجيل 1934 عملية رقابية من غرة ماي إلى 12 جوان الجاري (الإدارة الجهوية للتجارة)    وزير التشغيل : 2000 منتفعا بنظام المبادر الذّاتي قد تسلموا بطاقاتهم    عاجل : الأردن يعيد فتح مجاله الجوي صباح اليوم السبت    إيران تعلن إسقاط مسيرات إسرائيلية في مهمة "تجسّس"    إيران: المحادثات النووية "لا معنى لها" بعد هجوم إسرائيل    الخطوط التونسية تعلن عن تغييرات في رحلاتها نحو باريس    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    الإعلان عن المتوجين بالجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل    الدورة الأولى من الصالون الوطني للفنون التشكيلية من 14 جوان إلى 5 جويلية بمشاركة 64 فنانا من مختلف الولايات    إعادة تهيئة المقر القديم لبلدية رادس مدرجة ضمن برنامج احياء المراكز العمرانية القديمة باعتباره معلما تاريخيا (المكلف بتسيير البلدية)    وزارة الشؤون الثقافية تنعى المخرج والممثل محمد علي بالحارث    الصحة العالمية تحذر من طرق الترويج للسجائر    ميناء جرجيس يستعد لاستقبال اولى رحلات عودة ابناء تونس المقيمين بالخارج    نحو نفس جديد للسينما التونسية : البرلمان يدرس مشروع قانون لإصلاح القطاع    انطلاق خدمة التكفّل عن بعد بالجلطات الدماغية في جندوبة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    









قصة: عنق الزجاجة
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

استوت الزجاجة شامخة على الطاولة المستديرة كانت أعينهن الثمانية ترقبها في تحفز وفضول كبيرين From America كل الأشياء الغريبة قادمة من هناك... من بلاد العجائب.
تأملت الحرفين البارزين للزجاجة ثم مدت يدا مرتعشة لتتحسس الزجاجة كأنها تكتشف وجه حبيبها، امتدت يد أخرى تضع الأكواب... شطائر اللحم المشوي... قطع الجبن وبعض الفواكه الجافة. ارتفع صوت من الجانب الآخر من الطاولة :
الفول أين حبات الفول؟
تعقبه صوت أكثر نعومة ودفئا
والكوب الخامس لا تنسي الكوب الخامس
رائحة اللحم المشوي امتزجت برائحة البخور المنبعث في «مجمرة» وضعت بالركن القبلي من الغرفة. أصبح للمكان شكل خاص وطعم مختلف. الغرفة الصغيرة الباردة العارية إلا من الكتب المتناثرة والأوراق المشوشة، بدت دافئة مضيافة فاتحة ذراعيها، الغرفة الخزينة التي ضجت بدموع وكآبات أصحابها تتراقص الليلة على أنغام موسيقى هادئة «لنمارس الحب قبل أن نقول وداعا... لنمارس الحب قبل أن نفترق».
فلنبدأ
كان الصوت تقريريا، جادا كمن يفتتح جلسة أو ندوة... اقترب الحضور من الطاولة... انجذب الكرسي الوحيد واستقر الباقون على حافة السريرين كانت الزجاجة ترقب الحضور في تحفز وفضول كبيرين كأنها لم تعش أبدا أجواء كهذه ولم يصادفها حرفاء من هذا الطراز، امتدت يد سامية لتقبض على عنق الزجاجة، كانت قبضتها محكمة كأنها تخشى أن يفلت هذا الطائر المتوحش منها. سكبت فاندلق في الأكواب سائل يميل إلى الصفرة أو إلى حمرة الغروب لم يكن اللون غريبا يذكرها بمشروب الأبلا.
قربت زينب الكوب من فمها وقبل أن ترتشف تحركت شفتاها في تمتمة معهودة ابتسمت سامية ابتسامة ماكرة ثم لم تلبث أن انفجرت ضاحكة فسرت العدوى بسرعة واندلع الجميع في هيستيريا متواصلة.
الأكواب ترتفع وتنزل في حركة بطيئة شطائر اللحم تختفي تباعا والفواكه الجافة تحدث قزقزة متواترة، جدران الغرفة تتململ ببطء.. تبتعد... تبتعد أكثر... أصبح المكان أكثر اتساعا والزجاجة المتوحشة غدت بين أصابعهن طائعة أليفة. انتصفت الزجاجة وانتصف الليل وهن في منتصف العمر ينتظرن الساعة الصفر ليبدأ الانحدار نحو الفناء أو الخلود سيان فكلاهما عدم.
سامية هل أقفلت الباب بالمفتاح
نعم يا زيتونة... لا تخافي لن يراك (فؤادك) وأنت «سكرانة» يا مزيانة.
ثم انفجرت ضاحكة وهي تسكب كأسا جديدة وتردد بصوت مرتفع : أولاد الكلب كيف اختروعوا هذه الأشياء اللذيذة أشعر أن جسدي يتبخر رويدا رويدا وأفكاري تصبح أكثر وضوحا وانطلاقا . تأخذ الكأس تقرّبها من أنفها :
أحدهم يحاول فتح الباب... نعم... إنه هو.. أراه بوضوح.. النعاس يغلبني لكنني أراه بوضوح تام... يقترب الجسد الضخم من سريري... تقترب الرائحة الكريهة المقرفة رائحة العنب الفاسد تقترب أكثر. أحاول أن أصرخ لكن يدا تحكم غلق فمي. آه الرائحة... أرغب في التقيؤ، تركض سامية مسرعة نحو دورة المياه تتبعها الأعين وتظل الأجساد ملقاة في أماكنها دون حراك... أجساد ظامئة متمردة ساخطة...
تصبح الخمر في الليل أشهى والشعر مع الخمر أحلى. آه أين أنت يا أبا نواس؟ حاولت ريم الوقوف لكن قواها خانتها. الآن فقط تأكدت أن الأرض كروية الشكل وأنها ت...د...و...ر وأن «قاليلي» على حق. حاولت الوقوف من جديد... ترنحت... ابتسمت وتمتمت :
أنا ثملة
ضحكت ثم اتجهت بخطى متعثرة نحو الأوراق والكتب المبعثرة قرب النافذة بعد دقائق عادت وهي تحمل أوراقا وتردد بصوت خافت :
سأقرأ لك قصيدة... هي آخر ما كتبت.
ضج المكان بالصراخ والصفير والضحك وتناثرت الأصوات :
هيا يا ريم اقرئي
ها يا أبا الطيب
لا. لا الشنفرة فأبو الطيب لم يكن صعلوكا.
نظرت اليهن في حزن : أرجوكن أريد أن أقرأ هذه الأوراق تتكاثر وتتكاثر فتكاد تخنقني....
أريد أن أقرأ... أريد أن... لا أجد صوتي... أختنق كان صوتها يرتفع ويدها الممسكة بالأوراق ترتعش وعيناها تشعان ببريق غريب
صرخت فائزة :
سكوت دعونا نستمع... هيّا يا ريم اقرئي لكن ريم صمتت بشكل مفاجىء كانت تمسك بالأوراق تضمها بعنف كأنها تخشى أن تأخذ منها، كانت تضمها وتبكي.
«لنمارس الحب قبل أن نقول وداعا... لنمارس الحب كأنها المرة الأولى».
الغرفة تتأرجح على أنغام الموسيقى الحزينة والليل يتدحرج نحو المجهول وهذه الأرواق الأربع تخلع عنها أجسادها وترفرف عاليا.
امتدت يد سامية تحاول الإمساك بعنق الزجاجة وهي تتملص كطائر نذروه للذبح مدّت يدها الثانية أمسكت بها... حاولت أن تسكب فصرخت فائزة :
لا داعي هذه البقية سنسكبها في الكأس الخامسة.
سألت زينت باستغراب : ولكن لمن هذه الكأس .
إنها له
له؟ من؟
Ozvaldo أوزفالدو
آه ! كفي عن هذا الجنون...
ليس جنونا... إنه موجود... أؤكد لكن ذلك... أشعر أنه دائما معي... هيا اسكبي الكأس...
قالت ريم وهي تمسح بقايا دموع علقت على وجنتيها :
حرام عليك دعيني أشرب هذه الكأس... أشعر أنني لم أسكر بعد أم ترى ولدت ثملة.
لا تتخاصمن في المرة القادمة سنشتري زجاجة أخرى عقبت زينب باستنكار : «ما هذا المنكر؟.. أعوذ بالله.
يا جاهلة أنت لا تعرفين من الدنيا إلا فؤاد والجهاز وموعد الزواج... أنا أيضا سأتزوج يوما ما نعم... كلا لن أتزوج أبدا... لن أسمح لأحد أن يلمس جسدي تكومت سامية كقطعة أثاث قديمة في ركن منزو ثم انكمشت على نفسها كحيوان يستشعر الخطر وبدأت تردد : لا لن أسمح له أن يلمس جسدي ثانية لن يلمسه... ابتعد عني لا تلمسني....
كانت تحرك يديها بقوة في كل الاتجاهات كأنها تدفع جسدا ضخما، ثم وضعت وجهها بين كفيها وانخرطت في بكاء متواصل.
اقتربت فائزة من الطاولة... أبعدت الصحون الفارغة جانبا ووضعت ورقة بيضاء ثم بدأت تخط أحرف الأبجدية في شكل دائري.
حين لمست الكأس المنتصبة على الورقة بسبابتها جعلت تردد بصوت منخفض :
Esprit manifeste-toi «أيتها الروح اظهري».
كلميه بالعربية أم تراه لا يفهم إلا لغة «لامارتين» و»شارل بودلار» ابتسمت ريم وهي تقذف في وجه فائزة هذه الجملة التي أثارت جنونها وجعلتها تصرخ :
اصمتي... اصمتي لا تشوشي أفكاري يجب أن أركز حتى أتمكن من التواصل معه.
انظري الكأس تتحرك
انك تدفعينها بسبابتك
كلا هو يدفعها... اصمتي إنه يتجه نحو حرف السين يريد أن يقول شيئا لسامية.
رفعت سامية رأسها... انتبهت زينب من غفوتها وهي تطلب من فائزة :
أرجوك أساليه إن كنت سأتزوج هذه الصائفة
إنه يريد أن يكلم سامية... اصمتن.
كانت الكأس تتحرك فوق الورقة تدفعها روح Ozvaldo أو سبابة سامية.
تحركت خطوات Ozvaldo فوق الورقة ببطء في بادىء الأمر ثم تسارعت فتسارعت نبضات قلوبهن... لمعت أعينهن... فتحت أفواههن وهن يرتبن الاحرف التالية : أ ع ت د ى ع ل ي ه ا اقرئي يا ريم.
«اعتدى عليها»
التفتت الأعين إلى سامية وفتحت الأفواه لتنطق معا :
من؟
عمي. لم تدر سامية كيف نطقتها ولا كيف أجابت.
نعم هو اعتدى عليّ كان يتسلل إلى غرفتي كل ليلة... و كانت أنفاسها تتلاحق وصوتها يرتعش وهي تتكلم دون ارادتها كأنها... كأنها مسكونة بروح غير روحها.
سبابة فائزة تضغط على الكأس بقوة وOzvaldo ينقل الخطى بثقة فوق الأحرف المتمايلة والأعين الثمانية تفكك الكلمات وتعيد ترتيبها كل على هواها.
آه شكرا لله سأتزوج هذه الصائفة... انتظري... متى؟ يوم 26 أوت.
سأصدر أول مجموعة شعرية لي عما قريب
انظرن... هذا رائع : أ.ح.ب.ك إنه يكلمني Ozvaldo حبيبي.
ألسنة الضوء تطل من شبه نافذة علقت قرب السقف جدران الغرفة تقترب... تكاد تلامس بعضها وهذه الأجساد الأربع تتناثر على اسلفت المربع الضيق عارية من الرغبات الزجاجة تمد عنقها نحو القطع المكومة وترسم على شفتيها ابتسامة ماكرة.
في الصباح... وحين فتحت مدرسة القرية الوحيدة أبوابها كان الجميع يتساءلون عن سبب غياب المدرسات الأربع...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.