قبل سنة من الآن لم يكن مقدم أركان الحرب التونسي المتقاعد محمد أحمد قادرا على التعبير عن ما يشعر به حتى لأقرب الناس إليه، ولسنوات طويلة لازم الصمت وخيّر كغيره من العسكريين التونسيين المتهمين في قضية "براكة الساحل" عدم الخوض في تفاصيل ما تعرض له منذ عشرين سنة. ويعود أحمد اليوم ليقلب في دفاتر الذاكرة وليسرد بعضا مما تعرض له في هذه القضية التي اتهم فيها نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي مجموعة من العسكريين تعد 247 ضابطا بالإعداد مع حركة النهضة للانقلاب على الحكم. بداية الحكاية تفاصيل تلك الأيام لا يمكن حتى للزمن أن يمحوها من ذاكرتي، وصوت التعذيب في زنزانات الداخلية لازمني صداه لسنوات طويلة، وما تعرضت له وغيري من الزملاء سبب لنا أمراضا لا تزال ترافقنا إلى اليوم"، بهذه الكلمات يختصر محمد أحمد بعضا مما تعرض له إثر توجيه التهمة إليه ولعدد من العسكريين بالتخطيط للانقلاب على حكم المخلوع بن علي. ولم يتخيل مقدم أركان حرب المتقاعد -الذي كان يشغل منصب رئيس قسم المخابرات والأمن قبل ثلاثة أسابيع من إيقافه- أن يتغير مسار حياته يوم 22 مايو/أيار 1991 حين تم استدعاؤه لحضور اجتماع بإدارة الأمن العسكري، ليجد نفسه مقادا إلى وزارة الداخلية وخاضعا لتحقيقات مكثفة ولأسئلة مكررة عن علاقته بحركة النهضة وعن ما دار في اجتماع "براكة الساحل". وقد كان وزير الداخلية السابق عبد الله القلال قد أعلن في اليوم ذاته خلال مؤتمر صحفي تورط حركة النهضة بمشاركة مجموعة من العسكريين في محاولة الانقلاب على الحكم. وعن تلك التحقيقات يقول محمد أحمد للجزيرة نت "كل الأسئلة كانت تدور حول اجتماع براكة الساحل والمشاركة في الانقلاب على الحكم"، مشيرا إلى أن الدولة قامت بإعداد هذا السيناريو واختلاق اجتماع افتراضي وخيالي لمجموعة من الضباط بهدف ضرب حركة النهضة وتحجيم المؤسسة العسكرية والتخلص من القيادات العسكرية. وأضاف مقدم أركان الحرب التونسي المتقاعد "لقد تمت معاملتنا معاملة المجرمين، وجردنا من بزاتنا العسكرية وخضعنا للتعذيب والتنكيل والسب والشتم خلال الاستنطاق الذي دام لمدة أربعة أسابيع متواصلة". ويواصل حديثه قائلا إن الهدف من هذه المؤامرة كان اتهام حركة النهضة الإسلامية باختراق المؤسسة العسكرية واتهام نخبة من العسكريين بالمشاركة في الانقلاب والانتماء للنهضة. مؤامرة محبكة وبكثير من المرارة والألم أيضا يسترجع العقيد المتقاعد محسن الزغلامي رئيس جمعية "إنصاف قدماء العسكريين" -التي أسست بعد سقوط نظام بن علي للدفاع عن العسكريين الذين تم اتهامهم في قضية "براكة الساحل"- ما تعرض له خلال السنوات الماضية من تعذيب وظلم وإهانة. ويذكر للجزيرة نت أن ما تعرض له هو وزملاؤه من تعذيب جعلهم يمضون على تقارير يقرون فيها بالمشاركة في اجتماع براكة الساحل ويتهمون فيها بعضهم البعض بالحضور في هذا الاجتماع، "كانت هذه الاعترافات تنتزع منا بالقوة وكنا نمضي على ما يريده الجلادون منا. فبعد أيام طويلة من التعذيب لم يكن بمقدورنا تحمل المزيد حتى إن بعضنا قد فكر في الانتحار". ولم يكن كل من أحمد والزغلامي يعرفان أنهما محتجزان في زنزانتين متلاصقتين في وزارة الداخلية، وكان كل منهما يسمع صراخ الآخر وأنينه كل ليلة أثناء فترة الاحتجاز دون أن يدرك ذلك، لكنهما وبعد أسابيع من الاحتجاز اكتشفا كغيرهما أنهما خضعا في المكان ذاته للتحقيق والتعذيب والاتهام بالمشاركة في الانقلاب على الحكم. ولم ينعم أحمد والزغلامي بالحرية حتى بعد إطلاق سراحهما أسابيع بعد التحقيق معهما، إذ لم يتم رد الاعتبار لهما وأحيل أحدهما لمهام إدارية فيما أحيل الآخر على التقاعد الإجباري، وتعرضا خلال فترة حكم بن علي للمراقبة الإدارية ولتبعات الجهاز الأمني. ويختزل محمد أحمد بعضا مما يشعر به ومما تعرض له بسبب ما يسميها مؤامرة "براكة الساحل"، بقوله "عاش 247 عسكريا وعائلاتهم وأبناؤهم مأساة كاملة، فلم يكن لنا الحق في العمل والسفر، وخضعنا للمراقبة والتتبع من قبل البوليس وعشنا منبوذين ومقطوعين عن الأقارب والأصدقاء ولم يكن بإمكاننا حتى مصارحة أقرب الناس إلينا بما نعانيه، حتى سقوط بن علي خلناه أمرا مستحيلا، لكنه تحقق ليعيد لنا الأمل والثقة في استرجاع حقوقنا التي سلبت منا". المصدر: الجزيرة