لا شك ولا اختلاف في أن نشر الفيديو المنسوب إلى السيد وزير الداخلية علي لعريض هو من صنع أجهزة مخابرات نظام بن علي، فقد أُنتج في فترة حكمه وفي أوج قوته وروجت له صحف قريبة من أجهزته الأمنية والاستخبارية إبان صراعه الدموي مع حركة النهضة. ولقد كان الأمر عاديا بالنسبة إلى مثل ذلك النظام المتضلّع في إنتاج الفساد والجريمة. لكن إعادة نشره اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي يطرح عدة أسئلة ويثير الاستفهام. هل إن ما أنتجه نظام بن علي من أدوات لا أخلاقية ولا إنسانية تستخدم في الصراع السياسي لا يزال صالحا اليوم رغم سقوط حكمه المدوي؟ وهل إن استخدام التشويه والاعتداء على الذوات البشرية ماديا ورمزيا لا يزال يجد مكانا له في المنظومة المجتمعية الجديدة؟ وهل إن سياسة الأرض المحروقة التي مارسها هذا النظام تجاه المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع لم تكنسها الثورة الشعبية التي كنست نظامه؟ إن الأمر لا يتعلق في رأيي بالسيد وزير الداخلية البتة وإن كان المستهدف من راء ذلك هو وحزبه مع أن الضرر المعنوي قد طاله وطال عائلته، ولكنه يحيل على أزمة أخلاقية عميقة يعيشها مجتمعنا سمحت للبعض بنشر مثل ذلك الفيديو وسمحت للبعض الآخر بتوزيعه تشفيا وانتقاما، وعادت بالنقاش السياسي إلى مثل ذلك الانتماء الأولي بعد أن خلنا أن الثورة قد قطعت مع تلك الممارسات المتعلقة بالذوات والتي لم نشهدها حتى في أوجه الحملة الانتخابية. فالسلوك مدان بكافة المقاييس السياسية والأخلاقية، لكن بنفس المقاييس أيضا يجب إدانة العنف الذي مورس على النائب في المجلس التأسيسي الأمين العام لحركة الشعب محمد البراهمي، فالرجل لم يعرف عنه أنه اعتدى على أي كان ماديا أو رمزيا ليلقى ما لقيه أمام وزارة الداخلية يوم 11 من الشهر المنصرم. أما أن تكون مواقفه التي صرح بها في المجلس التأسيسي تجاه هذا الطرف أو ذاك هي السبب فيما تعرض له فإن الأمر يكون على درجة من الخطورة ومن انخرام آخر لمنظومة القيم والأخلاقيات والأعراف التي من المفترض أن تسود في الفضاء العام السياسي. إن ممارسة العنف على خلفية المواقف السياسية وفي حدودها على نائب منتخب انتخابا ديمقراطيا شفافا من قبل الشعب ليمثله، يضع جميع الفاعلين السياسيين بدون استثناء أمام مسؤولية شجبه والتصدي له وإيقافه مهما كان المتضرر وإلى أي اتجاه أو تيار أو حزب ينتمي. وفي هذا الإطار يستوجب الانتباه إلى أن ممارسة العنف من قبل قواعد هذا الحزب أو ذاك يعود بالصراع السياسي إلى مربع ضيق جدا شبيه بذلك الذي نشأت فيه التيارات السياسية أيام السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم في حرم الجامعة لما كانت القاعدة هي الصراع الذي لا يخلو من عنف وليس الحوار، ناهيك أن إعادة إنتاج العنف والصراع على مستوى أوسع ليشمل المجتمع ككل سيؤسس للتفكير في أطر حمائية قرابية أو سياسية أو تنظيمات مختصة في ممارسة العنف وهذا بدوره على درجة كبرى من الخطورة لأنه لا يشرّع للعنف وانتشاره ليصبح أمرا مباحا فقط ولكنه في مقابل ذلك ينزع عن الدولة احتكارها لممارسة العنف المشروع بوصفها التنظيم العقلاني للمجتمع. ومن مضار ذلك السلوك أنه يغلق قنوات الحوار بين القوى السياسية على اختلاف ألوانها ويقلص من مساحات الالتقاء بينها ويوسع من دائرة خلافاتها وتناقضاتها حتى وإن كانت متقاربة ولها قواسم مشتركة. فمثل هذه الجراحات إذا ما توسعت وتعمقت فإن اندمالها ليس بالأمر الهين في ظل إرث تاريخي معقد وطويل لا يزال يفعل فعله، فتسقط أمامه مصالح الكيانات والأوطان لتحل محلها رغبات الأفراد والتنظيمات والأحزاب. وإن التأسيس لميثاق شرف سياسي ولعقد اجتماعي جديد يحكم العملية السياسية الديمقراطية برمتها يلتزم بعدم ممارسة العنف بأشكاله بات ضروريا للبناء الديمقراطي التعددي التداولي الجديد الذي هو أمر لا ما فرّ منه للتعايش في مجتمع واحد ثراؤه متأت من تنوعه وسيادة روح الاختلاف فيه فكريا وسياسيا ونقابيا في تصورات المشروع المجتمعي ككل. وإن عدم السيطرة على مظاهر الاعتداء التي مورست ضد وزير الداخلية أو ضد النائب في المجلس التأسيسي تفتح الأبواب على مصراعيها لتنامي التطرف في التفكير والعنف في السلوك والإقصاء في التعامل فيتحول العمل السياسي البنّاء إلى نشاط ميليشياتي مدمر وعندها ستجد الدكتاتوريات منافذ لها للعودة بتعلة انخرام النظام وعجز القوى السياسية "الديمقراطية" على تأمين استمرارية الدولة وسيدرك الجميع أن جوهر ذلك ليست القضية السياسية في المقام الأول وإنما هي الأزمة الأخلاقية تتوسع وتستشري في الفضاء العام السياسي، وذلك على نحو لا تحمد عُقباه.