تعتبر" سوزان روز أكرمان" صاحبة كتاب " الفساد والحكم" أن من أعقد مظاهر الفساد السياسي هو ذلك الذي يتخذ شكلا هرميا، من رأس النظام الى القاعدة المرتبطة به، وكلما تتبعنا الشبكة نزولا الى السفح كلما توسعت قاعدته أكثر وصعب تفكيكها من هنا تكمن صعوبة اجتثاث بؤر الفساد لعدم ترابط عضوي بين خلايا القاع، فهي أشبه بالشبكات المستقلة في حركتها، لكنها تتفاعل مع قمة هرم الفساد التي تبدو أكثر انغلاقا على نفسها وتماسكا. والرابطة التي تؤلف شبكة الفساد في القمة تستمد قوتها من سلطة الحكم نفسه، وتشمل الدائرة العائلية الضيقة مثل علاقة عائلات المافيا التي تمثل رابطة الدم نواتها الصلبة كما أن هذه العلاقة محكومة بضوابط يرسمها" الكابو"( الزعيم) وعدم افشاء الأسرار أو ما يعرف بقانون "أوميرتا" وحركات القرد الثلاث، مما يكسبها قدرة على العمل في سرية لبسط نفوذها وتوسيع مجالها الحيوي. في الحالة التونسية كان تشكل دائرة الفساد( في محيط الرئيس المخلوع) أسبق في النشأة والتشكيل من دائرة الطرابلسية، فهذه الأخيرة فرخت من جلباب النواة الأولى عبر المصاهرة بين العائلتين لتنتشر في ما بعد في شكلها الأخطبوطي من خلال نفس الدائرة الدموية التي احتكرت السلطة كمقبض للفساد بأجهزته الادارية والاعلامية والقضائية والتشريعية والحزبية، وهي التي تمثل في مجملها القوة الحقيقية للتحكم في مقدرات الدولة الاقتصادية ولو تعمقنا أكثر في تفرعات شجرة العائلة فان " فساد القصر" لم يخرج عن دائرة رابطة الدم والمصاهرة التي تشابكت مصالحها على امتداد عقدين لتصبح على غاية من التنظيم، ومناطق النفوذ والهيمنة، وما اكتشف في خزائن القصر يؤكد أنها دويلة داخل الدولة لها ودائعها المالية، وشركاتها وعقاراتها( الأراضي الفلاحية والنزل، وشركات الطيران، والسيارات وغيرها) شبكات النواة الصلبة وبدرجة أقل في هرم التسلسل نزولا الى القاعدة نجد الدائرة الثانية التي تمثل الجهاز التنفيذي( وزراء ومحامون ومستشارون، وقضاة، واداريون باعتبارها قبضة الفساد على الأرض والواقع، فاذا كانت قبضة النواة الصلبة في القصر هي الممسكة بخيوط اللعبة فان الدائرة التي أشرت اليها هي الأخطر لأنها عصية على المحاسبة والتجريم لسبب مدروس يفسره المثل العامي" تبديل السروج فيه راحة" المتحكمون في مفاصل الدولة باعتبارهم منفذين لارادة " عصبة الفساد" وللتغطية على فساد اللاعبين الرئيسيين متحركون في الأدوار والمناصب في أجهزة الأمن والتجارة والصناعة والسياحة وأملاك الدولة والتجهيز والاسكان والفلاحة والمتمعن في الفترة التاريخية من عمر النظام يجد أن حركة نقل الوزراء ( ليست عقابية) بل كانت تتم من خلال ترقيات في أغلبها، ولم يكن ذلك خيارا عبثيا لأن اقصاء رموز الواجهة يعني توليهم مناصب المقاعد الخلفية لتلميع صورة النظام ظاهريا وتولي هؤلاء مهام أكثر تعقيدا في الظل والذين تولوا مناصب للمهمات الأيادي القذرة هم من " الأيادي النظيفة"- كما يقال عن المافيا الايطالية، وربما يتساءل المرء قبل الثورة وانكشاف المستور عن" اقالة" وزير في الواجهة وتوليه خطة في الظل، وكان السائد آنذاك أنه " مغضوب عليه" ويتضح بعد توليه منصبا أهم أن كل خيوط اللعبة محبوكة سلفا والتفسير المنطقي لما كان يدور هو أن تدوير( من الدوران) بعض الوزراء على المناصب كان بايعاز من الرئيس المخلوع أو " حاكمة الأطلال" لاستهداف قطاع بعينه أو تمرير قانون أو عقد صفقة تمنح للعائلة حق وضع اليد بشكل لا شبهة فيه، وتغطي على التلاعب، وهذا حيوي لتغذية " السيستام" الأقربون أولى بالكعكة وتتمتع بالحصانة. اننا أمام أخطر المؤامرات التي يعد لها في الخفاء بتحالفات جديدة ومناورات تنم عن رغبة في الانقضاض على السلطة هناك في الدائرة القريبة من القصر من كان يعرف تحت اسم " السيد 20 في المائة "وهذا شائع في أوساط كثيرة، وحتى يحظى هؤلاء سواء من كانوا في الواجهة أو المقاعد الخلفية بنصيب مجز من الكعكة، كانوا يتصرفون وفق منطقين تضخيم قيمة الكعكة أو قضمها مثلما تفعل الفئران( بأمر المستفيد ومباركته) ولم يعد خافيا اليوم على التونسيين أين ذهبت قطع الكعكة منذ 1987 وما علينا الا أن نطبق مقولة" أنى لك هذا؟" وسنرى أن هؤلاء لم يكن بمقدورهم جمع الثروات وبناء القصور وهذا العيش الرغيد من الكسب المشروع والرواتب المعلومة للمناصب الوزارية اذا كان هؤلاء"البارونات" من بقايا النظام طلقاء، ولا يخضعون لمساءلة القضاء فاننا حتما أمام" مؤامرة" تستهدف ثورة التونسيين التي باتت مخترقة بالمفهوم المخابراتي، من جهات فرخت من صلب" السيستام" وهي ما أطلقت عليها اسم" الخلايا النائمة" اذ استطاعت بعد ثورة الحرية والكرامة أن تصنع بنفسها ما يشبه تخلي الثعبان عن جلده ليبدو في ثوب جديد عبر حزب جديد أو جمعية الخ... هذه عناصر الشد الى الخلف تتحرك اليوم جهارا في واضحة النهار لاعاقة مسار الثورة، وتعطيل المحاكمات، ولتمكين أفراد من عائلة المخلوع ومن والاها من المفسدين من دخول تونس وتفريغ حسابات أرصدة في جيوب بعيدة عن المشهد. من الذي يدفع بسخاء لحركات الفوضى في الجهات، وتأليب الفئات المهمشة للايحاء بانفلات الأوضاع الأمنية والاجتماعية وعدم الاستقرار؟ وهل أن قرارات الحكومة لا تعكس ضغوط " الأيادي الخفية" في ما نحن مقبلون عليه؟ ما كشف عنه السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة مؤخرا يوحي بأن دواليب " الجهاز" عادت لتشتغل بتواطؤ من الخارج عبر أيادي الداخل، وقد أثبتت عدة مؤشرات أن تهريب الأموال كان يتم بطريقة ممنهجة وعبر الحقائب الدبلوماسية من خلال غطاء السفارات التونسية بالخارج على غرار الاستيلاء على مقر القنصلية التونسية بباريس وتحويله الى اقامة خاصة علاوة على القضية الجارية بين أيدي عميد قضاة التحقيق حول تهمة غسيل أموال من قبل مجموعة منظمة والانخراط في عصابة مفسدين والتي دعيت فيها للمكافحة مع السيد أحمد بن مصطفى سفير تونس السابق بدولة الامارات العربية المتحدة بشأن المبالغ التي تولت تهريبها منذ سنة 2006 إلى هذا البلد والتي تقدر بأكثر من مليار من المليمات إلى جانب امتلاك مطعم فاخر بنفس البلد. لا شك أن تتبع دوائر الفساد لا يقتصر على اجتثاث هذه الطبقة التي تعتبر نفسها وريثة شرعية للحكم بل يسري ذلك على الأبناء في هذه العائلات، فقد ورثوا