كان والدي،يرحمه الله،وقد التحق بالرفيق الأعلى يوم غرة مارس 1995، آخر يوم في رمضان تلك السنة،رجلا أمّيا "مطلقا مطبقا"،ولم يمنّ الله عليه ولو بدرس واحد لا عند الكتاتيب القرآنية ولا من باب أولى في المدرسة العصرية. ولكنه كان يقود سفينة حياته،وحياتنا،بحسّه البدوي وفطرته الإنسانية. وكان يمنع عنا اشتراء تلفزة أو استعمالها دون أن يدخل معنا في تفاصيل الفقه وعلومه وأصوله وفروعه ومتاهاته وقراءاته وموازناته .الخ،ومن أين له ذلك وهو الرجل الأمي "المطلق"؟؟؟ ولما كبر إخوتي وانخرطوا في الحياة العامة والعاملة،كان بعضهم يشتري تلفزة ل"يفرهد" العائلة،ولكنه كان يأمره أن يبيعها وينفق ثمنها فيما أهم. ولما كبرت أنا،وقد كنت أصغر إخوتي،وبلغ والدي يومها قرابة الثمانين، وأحسستُ أنني ربما أصبحت "رجل الدار"،اشتريت تلفازا،وكنت لا أزال طالبا،ولكنه رفض استعماله، يرحمه الله. وكانت أمي،أطال الله عمرها في طاعته،وشقيقتي الصّبيّة وقتها،يتمنّون عليّ ألاّ أبيعها. فكنّا نشغّل التلفزة في غرفة مجاورة،ونكتم صوتها خشية غضب والدي،ولكن انعكاس تبدّل أضوائها على الجدران كان ينبّه والدي على قيامنا ب"جريمة" تشغيل التلفزة،فيقول لنا،وهو يكتم غضبه من فعلنا:"أنتم ما تحشموش،وما تستحوش....." كان ذلك أقصى ما يقوله والدي لأحدنا إن غضب،ولم نكن نقدر على تحمّل إهانة أو عقاب أمرّ من ذلك. وبعد أيام،فاجَأْتُ أمي وأختي ببيع التلفزة ؟؟؟ .... كان ذلك قبل 22 عاما أو يزيد،ولم تكن الثورة قد بدأت تتخلّق بعد في رحم المجتمع والتاريخ،وكانت التلفزة يومها النافذة الوحيدة على العالم؟؟؟. هل كان والدي إرهابيا جدا؟،رجعيا جدا؟... أم أنه كان "تقدّميا" جدا ؟ استشرافيا حدّ اللامعقول ؟؟؟ هل كان يعلم أنها "لا تَصلُحُ ولا تُصْلَحُ" ؟؟؟ ولماذا كنّا نحن نستحي من عبارة يقولها لنا،ونرى قوما آخرين اليوم يشهد العالم عهرهم "المطلق المطبق"،ولا يستحون ؟؟؟؟.لا،بل ويحتجّون ويصطرخون ويولولون ؟؟؟؟ صالح مطيراوي 24 أفريل 2012