تونس د. عبدالرّحمان المرساني*: يشهد حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة التّونسي وأحد أركان الترويكا الحاكمة صراعا بدى غير خفيّ على العموم داخل تونس وخارجها بعد أن فشلت كلّ المساعي الصلحيّة من قبل العديد من الشخصيّات الوطنيّة، وأهمّها التدخّل الذّي قام به الشّيخ راشد الغنّوشي زعيم حركة النهضة التونسية في محاولة أخيرة لرأب الصّدع وحصر الخلاف بين الأخوة والرّفاق، هذه المبادرات لم تأت أكلها نظرا لإعتماد كل طرف في النّزاع طريقة الهروب إلى الأمام والتوجّه إلى القواعد مباشرة لإقناعها بوجاهة رأيه وصواب إختيّاراته قصد حشد الأنصار والمؤيّدين في الجهات والمحليّات استعدادا لربح قصب السّبق السيّاسي في المؤتمر القادم للحزب الذّي سينعقد في هذه الصّائفة 'صائفة 2012'. وتمتدّ في الواقع جذور هذا الخلاف إلى فترة انتخابات المجلس التّأسيسي، فمن البداية كان هناك ارتجالا بدى واضحا في تكوين القائمات الانتخابيّة حيث تسرّبت عناصر محسوبة على حزب التجمّع المنحلّ إلى هذه القائمات وترأس بعضها تجمعيّون أصيلون، ولعلّ حادثة حرق فرع الحزب بإحدى مناطق الشّمال الغربي دليل واضح على حنق العديد من المواطنين وغضبهم من العناصر التجمعيّة التّي إختارها الحزب لكي تكون على رأس قوائمه وفازت في الانتخابات وأصبح لها رأي ومركز نفوذ في كتلة الترويكا في المجلس التأسيسي، ويكفي أن نذكر مثالا واحدا يغني عن كلّ بيان أنّ رئيس قائمة الحزب في إحدى الدّوائر معروف عنه قربه من الرّئيس المخلوع الذّي كلّفه بوضع الأسس العمليّة لتطبيقات الإقتصاد اللاّمادّي وقد وقع الاحتفاء به في قصر قرطاج واسناده وسام 7 نوفمبر، إضافة إلى علاقة هذا الأخير ببعض الدّوائر الأمريكيّة ذات التّأثير الخفيّ على السيّاسات العربيّة، وقد بدى واضحا أنّ هذا الخطأ في عدم التحرّي من قبل قيّادة الحزب في كلّ شخص ترشّح لهذه الإنتخابات، أدّى إلى خروج بعض العناصر عن الصفّ من البداية وتكوينها لقائمات مستقلّة بكلّ من دائرتي بنزرت وبن عروس، الأولى يرأسها الدّكتور عبدالرّحمان المرساني والثانيّة ترأسها الدّكتور طارق الكحلاوي دليل لا يحتمل الشكّ في عدم تقدير الحزب لقسم كبير من كفاءاته ذات الإشعاع السياسي والقدرة على الإضافة النوعيّة للوطن. إذن كان واضحا من البداية أنّ هناك إرباك كبير وخلل قد يكون متعمّدا من قبل البعض في المكتب السيّاسي للحزب في قبول المنخرطين، حيث تمكّن عدد لا يستهان به من الإنتهازيّين وقنّاصي الفرص وتجمعيّين من احتلال مواقع في مراكز جهويّة ومحليّة للحزب تحت غطاء أنّهم هياكل وقتيّة للإعداد للمؤتمر القادم وقد أشرف على الإعداد الفنّي والإداري لهذه العمليّة لجنة تم تنصيبها من قبل الأمانة العامّة للحزب ويرأسها أحد الشباب المشهود لهم في مجال التسيير الإداري لطبيعة تخصّصه في هذا المجال نظير مقابل ماليّ تمّ التّعاقد بشأنه مع الحزب، في حين أنّ كلّ هذه العمليّة الغاية منها الإستحواذ على الحزب من قبل هذه العناصر التّي تقودها أطراف في المكتب السيّاسي لحسابها على حساب أعضاء المكتب السياسي الذّين تبوّؤوا مناصب وزاريّة وحالت مشاغلهم الكثيرة عن متابعة الشّأن الدّاخلي للحزب. هذه العناصر المنصّبة في الجهات والمحليّات عمدت إلى إقصاء الفاعلين الحقيين من المناضلين الوطنيّين ومحاصرتهم عبر عدم تجديد انخراطاتهم، كما عمدت إلى توزيع الإنخراطات بنسب مدروسة تجعل حظوظ الفريق الذّي يترأسه الأستاذ العيّادي كبيرة. وقد صرّح هذا الأخير في إحدى الإذاعات الخاصّة التونسيّة أنّ إمكانيّة تكوين حزب جديد واردة كردّة فعل على تجميده بمعيّة أعضاء لجنة الهيكلة، وقد ورد خبر وأنا بصدد كتابة هذا المقال على صفحة التّواصل الإجتماعي الفايس بوك أن اجراءات تكوين هذا الحزب بدأت بالفعل تحت مسمّى 'حزب المؤتمر من أجل تونس' ولا نعرف مدى صحّته. سبب المشكلة معركة الوزارات والإستقطاب السيّاسي إنّ الإستقطاب الثّنائي في حزب المؤتمر بين مؤيّد لهذا الشقّ ومعارض للشقّ الآخر بسبب توزيع الحقائب الوزاريّة وإستئثار حزب حركة النّهضة بحقيبة وزارة العدل والتّي يدّعي الأستاذ العيّادي أنّ له مشروع طموح لتطهيرها من الفاسدين في حين ترى حركة النّهضة أنّ التطهير الجذري لهذه الوزارة سوف تكون نتائجه خطيرة على استقرار البلاد وأمنها لذا إحتفظت بهذه الحقيبة لأحد رموزها والّذّي لا يتوافق منهجيّا مع أساليب الأستاذ العيّادي في الآداء والتّعاطي اليومي بحكم أنّ الإثنين يشتركان في نفس البدلة السّوداء 'المحاماة' وعضوان في نفس الهيئة التّي تشرف على قطاع المحاماة في تونس، هذه التّفاصيل هيّ أصل المشكل في إعتقادنا وهيّ في نهاية المطاف نتيجة حتميّة لقبول حزب المؤتمر بالتّحالف مع حركة النّهضة والذّي لم يرق للبعض، واستغلّه كمطيّة لنقد أداء قيّاداته وإتّخاذ موقف معاد للرّموز التاريخيّة والشرعيّة وعلى رأسها الدّكتور محمّد المنصف المرزوقي رئيس الحزب السّابق ورئيس الجمهوريّة الحالي، ووصلت الحالة إلى حدّ إقصاء البعض من أعضاء المكتب السيّاسي وتكوين مجلس وطني مصغّر لتصحيح مسار الحزب، وهي لعمري بادرة غير بريئة عبر استقطاب عناصر من خيرة أبناء النّخبة التونسيّة هي في الواقع دخيلة على الحزب بل تمّ استقطابها في إطار التّجاذبات السياسيّة ذاتها واستغلال سمعتها وتاريخها الأكاديمي والنّضالي لضرب شقّ الدّكتور المرزوقي في رسالة للرّأي العام أنّ خيرة أبناء تونس هم من الشقّ الثّاني على حساب الشقّ الأوّل. وإنّي لأعجب في هذا المقام لعناصر مثل هؤلاء، قامات أكاديميّة وبحثيّة وحقوقيّة تسقط في لعبة تجاذبات سياسيّة بين فرقاء سياسيين كوّنوا في سنين الجمر تنظيما كان له قصب السّبق في معارضة الدّيكتاتوريّة بإعتبارها 'لا تصلح ولا تصلح'، ناهيك عن علاقاتهم البشريّة والإنسانيّة التّي كانت في الأمس القريب مثالا يحتذى في الرقيّ والطّيبة ورفعة الأخلاق. التّنظيم الهيكلي والوظيفي: بيت الدّاء إنّ ما يتعرّض له حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة اليوم هوّ نتيجة لما زرعه من كان مسؤولا عن الإستقطاب والهيكلة داخل الحزب قبل مؤتمره الأوّل المنعقد بعاصمة الأغالبة القيروان في الصاّئفة المنصرمة، حيث وقع الحفاظ على نفس التّركيبة وتشكيلة المكتب السياسي والمكتب الوطني في إشارة واضحة من المؤسّسين للحفاظ على مواقعهم وهو في إعتقادي قرار صائب من قبل هؤلاء حتّى لا يقع الإنحراف بالحزب وسرقته من قبل جحافل المتربّصين والمتسلّقين الذّين تمكّنوا من الحصول على بطاقات الإنخراط عبر الإنترنيت أو بطرق ملتويّة أو مباشرة من سكرتاريّة الحزب دون التحرّي في هويّاتهم السياسية السابقة أو ماضيهم السيّاسي، ويكفي أن أذكر هنا أنّ المستشار الأول في القصر الجمهوري هو تجمعي معروف جدّا وعرّاب لسياسات بن علي في المحافل الدولية وهو من جلب 'فريديريكو مايور' الامين العام السابق لمنظّمة الأمم المتّحدة للتربية والثّقافة والعلوم إلى تونس في مناسبة وطنية سنة 1993 لتلميع صورة النّظام الذّي أوغل في نهش أجساد الوطنيّين وعائلاتهم يمينا ويسارا وضيّق عليهم موارد الرّزق وحاصرهم وراقبهم في أدقّ تفاصيل حياتهم وسلّط عليهم بلطجيّته في الشّوارع والأنهج ومنعهم حتّى من الجلوس في المقاهي وتنصّت على هواتفهم وحاك المؤامرات ضدّهم بل ومسّ أعراضهم وأصولهم وفروعهم... هذا الديبلوماسي السابق الذّي تجاوز الستّين سنة وهي سن التّقاعد الوظيفي في تونس بلغنا من مصادر رفيعة المستوى في القصر الرئاسي أنّه قدّم إستقالته. وإنّنا لنستغرب من الدكتور المرزوقي أن يصرّح لوسائل الإعلام بأنّ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية هو 'صفر مال سياسي وصفر تجمعيّين' والعبارة للدكتور المرزوقي. في حين أن واقع الحال يقول عكس ذلك والكلّ يعلم، ونعتقد أنّه قال ذلك بناء على ثقته الزّائدة في السّاعين للتقرّب منه وهم كثر، كثر ... بينما بيّنت الأيّام أنّ حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة معبّأ بالتجمعيّين بل منهم من وصل إلى رتبة وزير ومستشار وكاتب دولة والكلّ في تونس هنا يعرف ذلك. والآن وقد وصل الحزب إلى مرحلة اللاّعودة بعد حدوث أعمال عنف بمقر الحزب بمدينة قابس بين أبناء الحزب أنفسهم وأستهدف فيها عناصر من المكتب السياسي ووصل الأمر حدّ إتّهام أسماء محدّدة في الفريق الحكومي بضلوعها في هذه الأحداث الأخيرة وتكوين مليشيات لحسابها وهو لعمري إتّهام خطير يفتقد للدّليل الملموس. والآن ونحن على أبواب إجتماع المكتب الوطني يوم 12 أفريل نيسان2012 وهو أعلى سلطة في الحزب بين مؤتمرين بدت الحرب النفسيّة معلنة وطالت التّشويهات الجميع وحرب الكل ضدّ الكل اشتدّ أوارها ونار الفتنة بدأ بالإكتواء بسعيرها خيرة أبناء الحزب وأنا واحدا منهم بحجب انخراطي لسنة 2012 وهي سابقة خطيرة بكلّ المقاييس الحزبية والتنظيمية، لنصل إلى مرحلة غير مسبوقة من التّجاذب السياسي الخطير يذكّرنا بما حصل في فترة الخمسينات بين الزّعيمين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة في بعض تفصيلاته الدّقيقة، ستكون مادّة دسمة لمتابعي الشأن السياسي بالتّحليل والنّقد وسيحقّق فيها المؤرّخون بعد ردهة من الزّمن. هل ستكون سحابة صيف عابرة أم تيّار الخليج الدّافئ الذي يسبب الإعصار؟ لا نرى انفراجا قريبا لهذه الأزمة في حزب المؤتمر أحد أعمدة الترويكا الحاكمة بل إنّ العلّة باتت مزمنة وسيحسم الأمر بعد أقلّ من أسبوعين ولربّما يوم 4 أفريل 2012 تاريخ انعقاد اجتماع المكتب السياسي، لكن يبقى تاريخ 12 أفريل 2012 والذي سيكون تاريخا حاسما وفارقا في حياة الحزب بكلّ المقاييس الهيكليّة والتنظيميّة، وأملي أن لا يغيب فيه أيّ طرف كما آمل أن لا يقع تغييب البعض من أعضاء المكتب الوطني وأنا واحدا منهم، حتّى لا يهضم جانب أيّ طرف ودعوتي ملحّة للسيّد وزير الداخليّة أن يتحمّل مسؤوليّاته كاملة في حماية هذا الإجتماع خشية إستغلال أطراف ثالثة أو من داخل الحزب الوضع لإرتكاب حماقات. وفي إنتظار هذا الموعد إنصرف كلّ منتسبي الحزب للإدلاء بدلوهم على صفحات الحزب في مواقعه الإفتراضيّة وعلى شبكات التّواصل الإجتماعي بين مستنكر وشاجب لما يحصل وبين متشيّع لهذا الشقّ أو للشقّ الآخر وبين مشوّه للبعض وبين آمر بالمعروف وآخر ساخط على الوضع الذّي آل إليه الحزب ويهدّد بالإستقالة . هل المؤتمر من أجل الجمهوريّة لديه مقوّمات التنظيم السياسي لم يكن حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة حزبا مهيكلا ولم يكن حزبا جماهيريّا بل كان ظاهرة صوتيّة بإمتيّاز في العشريّة المنصرمة، وعانى مؤسّسوه في الدّاخل والخارج من محاصرة النّظام البائد، وعرفوا السّجون والمنافي والتّجويع والملاحقة وصلت حدّ وضع مخطّط لإغتيال بعض عناصره الفاعلين، لكن لم يثنهم ذلك عن الدّفاع عن مبادئهم وعن الحقوق المدنيّة والسياسيّة وكانت مواقفهم راديكاليّة في معظمها وعند حصوله على تأشيرة العمل القانوني في ربيع سنة 2011 ومحاولة القائمين عليه بناء هياكله كان البناء عسيرا ومتعثّرا عرفت فيه حرب المواقع أشدّ وقيعتها. وهضم فيها جانب كبير من خيرة أبناء الحزب نتيجة التّجاذبات، وفقا لقاعدة من ليس معي فهوّ ضدّي في صورة مرضيّة شديدة القتامة. هذه حال حزب بدأ كفكرة لزعيمه الدكتور المرزوقي في منتصف التسعينات من القرن الماضي، باتت المحافظة على وحدته أمرا مستحيلا بعد أن تجاوز البعض كلّ حدود الليّاقة بل وكلّ الخطوط الحمراء في أيّ تنظيم سيّاسي محترم. الدّكتور المرزوقي الذّي أصبح جزءا من المشكل لدى البعض والذّي وقع الانقلاب عليه ذات ربيع من سنة 1994 في مؤتمر الرابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان التي كان يترأسها وآثر الانسحاب دامع العينين، وقدّم ترشّحه لرئاسة الجمهوريّة زمن الديكتاتوريّة بكلّ شجاعة في تحّد واضح لتوازنات الحكم في تلك المرحلة ولممارسة حقّه السيّاسي في نفس يوم الانقلاب عليه من قبل مأجورين ومنهم من هوّ نائب في التأسيسي بعد ساعة من الزّمن فقط وقد كنت شاهدا على هذه الواقعة وبأدقّ تفاصيلها. إنّها وقائع التّاريخ التّي لا يمكن محيها أو تزويرها والعبرة في الاستفادة من دروسها. والتّاريخ وفقا للقاعدة الخلدونيّة الشّهيرة في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق وللحديث بقيّة.. ' كاتب وباحث من تونس عضو المجلس الوطني لحزب المؤتمر من اجل الجمهورية* القدس العربي