على مر ثلاث وعشرين سنة من عهد الدكتاتور التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، ظل غالبية التونسيين يكتمون أحلامهم، ويخمدون أوهامهم خوفا من أن تطالهم أساليب القمع الوحشي التي اعتمدها جهاز البوليس في التعاطي مع المعارضين السياسيين، وفي مقدمتهم الإسلاميين بمختلف فصائلهم. لأكثر من عقدين خبت أحلام عموم التونسيين في الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية، واندثرت أوهام الكثيرين في بناء الخلافة أو الإمارة أو الدولة الإسلامية أو غير ذلك وسادت حالة من اليأس والإحباط والتشاؤم، وانتشر الخوف والرقابة الذاتية، وساد اليأس والإحباط والتشاؤم، وشاعت بين المواطنين ثقافة الخلاص الفردي، وأضحت قابلية التغيير باتجاه إشاعة الأوهام أو زرع الأحلام رهينة خوارق قد تأتي من السماء. وبحكمة الجيل الجديد من الشباب وتوقه إلى الانعتاق وتحقيق المعجزات، اندلعت الثورة التونسية في الرابع عشر من جانفي 2012 فأطاحت بعرش واحد من أعتى الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية، وأعادت للتونسيين بمختلف شرائحهم الاجتماعية واتجاهاتهم العقائدية والسياسية أحلامهم وأوهامهم التي طالما كتموها أو أقبروها، وأعادت لهم كلمتهم ومبادرتهم الحرتين اللتين سلبتا منهم لأحقاب طويلة من الزمن، وأصبح بذلك الشارع التونسي مسرحا عكاظيا تعرض على خشبته ألوان من المشاريع الحالمة بتجسيد إنسانية الإنسان، من خلال بناء دولة وطنية عصرية مزدهرة تضمن لكافة مواطنيها العيش بكرامة في كنف الحرية والعدالة والمساواة والرفاه، بعيدا عن صنوف الاستبداد والفساد والإقصاء والتكفير. كما تعرض على خشبته ألوان من المشاريع الواهمة المؤمنة بالاستنساخ والإسقاط والمصادرة والاحتكار، من خلال العمل على استنبات مشاريع غريبة أو طوباوية، يتوهم أصحابها واقعيتها وحاجة المواطن التونسي إليها، لعل أبرزها النزوع إلى خلافة تستعيد أمجاد الخلفاء الراشدين وامتدادات الخلافة الراشدة، أو إلى إمارة سلفية تعود بنا إلى عهد أسلافنا وتعيد للجهاد بمفهومه المادي حضوره ونضارته، أو إلى دولة دينية تنفذ الشرع وتقيم الحدود وتصادر الكفر والجحود، أو إلى دولة علمانية تخرج الدين من الشأن العام وتجعله أمرا ثانويا في حياة الأفراد. إن التونسيين يمرون اليوم بمرحلة مفصلية في تاريخهم الحديث تتعلق بوضع حجر الأساس لمستقبلهم السياسي والحضاري، وهم مدعوون إلى تفعيل أو تعزيز الأحلام الوطنية الهادفة لبناء دولة حديثة عادلة، تسع جميع المواطنين بمختلف اتجاهاتهم العقائدية والسياسية والمذهبية، وترعى حقوقهم في الكرامة والحرية والمساواة والعدالة. وإنهم لمدعوون كذلك وفي الوقت نفسه إلى الحذر من زراعة الأوهام المختلفة والمنتعشة من حالة الحرية التي تعيشها تونس اليوم، لما تمثله هذه الأوهام من خطر على مستقبلهم في الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي والعيش المشترك، فبالوهم " نستطيع أن نسافر في رحلة بين النجوم وأن ننزل على سطح القمر وأن نؤسس جمهورية أفلاطون" كما قالت الكاتبة العراقية رباح آل جعفر، ولكن لا نستطيع أن نمشي بين الناس بالأوهام، وأن نشاركهم طموحهم المشترك وحلمهم الواقعي في بناء وطن رحب يسع الجميع ولا يغترب فيه أحد. وإني لا أجد اليوم شعارا مؤشرا لتونسالجديدة، لتونس الثورة، ولتونس ما بعد الثورة غير: "نعم لزراعة الأحلام .. لا لإشاعة الأوهام"