تتمايز المجتمعات بمحصّلة دخلها الوطنيّ الخام وهو مجموع ما تكتسبه من عموم الماديّات والأدبيّات ورصيدها السّياسيّ المرتبط بمدى نفوذها الإقتصاديّ المترجم لفقه العمل عند مواطنيها ...فالعامل من موقعه يتحكّم في مؤشّر دولته في بورصة القيم العالميّة...وتصبح المعادلة يسيرة الإدراك فمن عمل نال رغيفا ومن أبى العمل بات جائعا ولا يلومنّ إلا نفسه...ومن رام العلا لوطنه سهر اللّيالي ...فهل ما يفعله كثير من التّونسيين فعل واع مؤشّر لإدراك سويّ يصل النّتائج بالمسبّبات ؟ الإضراب فعل إجتماعيّ حضاريّ ينال به العامل حقوقه متى ناسب الطّلب الظّرف ولا يستقيم سلوك الإنسان خارج سياقه الموضوعيّ وإدراك هذه المعادلة مؤشّر رقيّ الأمم ... أمّا عندنا فالعاطل يريد عملا ولم يع موضوعيّة تحقيق ذلك... و العامل يريد زيادة في مداخيله الماليّة دون التفاتة لغيره ولو كان أحوج منه ودون مراعاة لوضع انتقاليّ بعد ثورة يفترض فيه تبجيل الأكثر حاجة والعمل وتوفير الإستقراروالمساهمة الفاعلة في بناء مقوّمات الجمهوريّة التّونسية الحقيقيّة ...وغاب عن الكثير ممن يعتبرون مثقّفين دورهم في رفع الحسّ الوطنيّ لدى الجميع وتقديم الأمثلة الواعية العمليّة... ما أروع حلما يراود تونس الثّورة أن ترى أعوان أمن يضيفون لأوقاتهم الرّسمية دوريّات وإن تكن خالية من الفعل المهنيّ فهي تنشر الطمأنينة في نفوس المواطنين ...وما أبلغ رسالة المدرّسين المربّين حين يتبرّعون بساعات كلّما أمكن ذلك ...وما أزهى وطنيّة كل من يذيب ذاته في المجموعة... ولكن تتألّم الرّضيعة عندما تفيق كل صباح على نهش أبنائها ...أنياب تمزّقها وتدقّ عظامها ...فما أبشع أن يتكالب عليها المثقّف متدافعا مع غيره ويصرّح أنّه لا يرى سوى المال ويقول لك " أنا وبعدي الطّوفان فلا تحدثّني أيها المثاليّ الغبيّ عن الوطنيّة " ثم يرفع المصدح ويقدّم أطروحته العبقريّة الوجوديّة المتفرّدة : لماذا تقدّم غيرنا وبقينا في مؤخّرة الرّكب...أطروحة لا يفهمها الجهلة من العامّة فهل كما قال الحكيم الخبير" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألبَابِ " فهل من يعيق ثورته وحكومة وطنيّة بمرجعيّة إسلاميّة عالم ميّزه الله بإدراك فاق به غيره ؟ إدراك عرفانيّ راق لمفهوم الوطنيّة الّذي قد يعجز غير العالم عن الوعي به ؟ مآل البحث أن من غاب عن ذهنه مفهوم الوطنيّة بقيمهما المعياريّة الرّفيعة نقص وعيه وليس بعالم نقيس علمه بغيره ولا يصحّ أن نطلق عليه لقب مثقّف بما تحمله الكلمة من شحنة إدراك سامية ونضعه في خانة من جنس فعله الماديّ المشترك مع العامّة الّذين لا نلومهم على طلب الرّغيف وقد يعمي الجوع بصائرهم عن تونس ...