العدالة الانتقالية ليست رديفا للعدالة التقليدية, انما تختلف عنها في كونها تؤسس لمرحلة انتقال مؤسسي من وضع مظلم دكتاتوري الى نقيضه تماما إلا وهو العدالة والديمقراطية, ولكون الضحايا والجلادون يعدون بالآلاف. وكانت محاكمات نورمبرج بألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية هي المرحلة التأسيسية لهكذا نوع من العدالة. وفي هذه المحاكمات, تميز وضع المجتمع برغبة جامعة و ملحة لتطبيق هذا المفهوم الجديد, مع ان الضحايا كانوا يهود ألمانيا والمجرمون هم النازيون. وفي تونس تميز الوضع على خلاف منطق القانون الدولي, والأخلاق العامة التي مرت بها أغلب الدول في شرق الإتحاد السوفييتي سابقا وجنوب امريكا وجنوب افريقيا, والتجربة المغربية كمثال عربي متميز, اذا ظهرت اصوات تجانب الحقيقة بل تسعى لتبرير كل الظلم والقهر الذي سلط على شعب تونس. كما ان تطبيقات العدالة الانتقالية ليست قوالب جاهزة, وإنما تختلف من دولة الى دولة ومن خصوصية ثقافية الى أخرى, وبحجم الأضرار والضحايا والجلادون ايضا, وهنا تتنزل مفاهيم المعوقات العملية لتطبيق هذه العدالة, كتهديد الأمن والسلم الأجتماعيين. ومأزق تطبيق العدالة الانتقالية في تونس يكمن في تطبيق استراتجياتها التي اتفق عليها في اغلب التجارب الإنسانية, منذ الحرب العالمية الثانية, وهذه الأستراتيجيات في اقلها خمس, وهي, المحاكمات, تقصي الحقيقة, جبر الضرر, الإصلاح المؤسسي, وتأسيس الذاكرة الجماعية بإقامة النصب التذكارية. فالمحاكمات في تونس يشوبها كثير من اللغط, واتهامات عديدة موجهة لجهاز القضاء, ومطالبات كثيرة بكشف رموز فساده, ولكنها لم تظهر, ومتهمون كثر بالفساد حوكموا ليخرجوا بأقل الأضرار وبتهم عادية من أمثال صك بدون رصيد. في دول أخرى مثل ما حدث في محاكمات نورمبرج, توجه المجتمع الى القضاء العالمي وتمت المحاكمات علنا, ولكن عندنا واصل هذا الجهاز عمله كما كان, ولن يتغير الوضع الا بفرض الإصلاح داخل هذا الجهاز, ماعدا ذلك لن يبقى امامنا الا تجربة جنوب افريقيا, حيث بعد تقصي الحقيقة التجأ الجميع الى المصالحة دون اقامة المحاكمات. واما في خصوص تقصي الحقيقة, فالمأزق في بلادنا هو محاولة سيطرة المجتمع المدني على هذا الملف, بحيث قد يصبح أداة في أيادي أطراف حزبية تلبس رداء المجتمع المدني, وتكون بذلك توجهاتها فئوية بحتة, فتفتح الملفات ضد طرف وتغلق ضد أطراف أخرى, محاولة الحكومة ايجاد صيغة متوازنة لا سيطرة لأحد فيها على الآخر, هي الحل الأمثل برغم صعوبتها العملية, شرط الحفاظ على السلم المجتمي. وما تجده الحكومة من ممانعة الأطراف المدنية التي لها امتداد خارج الحدود يمثل الركن الأصعب في اقامة هذه الصيغة المتوازنة التي لا غالب فيها ولا مغلوب. وجبر الضرر, الذي يعتبر هدفا اساسيا من أهداف العدالة الانتقالية والذي أكدته كل القوانين الدولية, وهو مسألة اخلاقية قبل كل شئ, ولم يشهد في تاريخ الأمم ان استنكر أحد ما هذا المفهوم, إلا في تونس فقد ظهرت اصوات غريبة ناقضت نفسها وهي ترتدي عباءة حقوق الإنسان منذ سنوات, وناقضت القانون الدولي في وجوب الاعتراف بجبر الضرر ماديا لكل الضحايا وحسب الممكن, وأيضا ناقضت الأخلاق في ابسط شروطها, ومنهم من قال حرفيا لأحد الضحايا " انني لم ارسلك لتناضل من أجلنا ولن اسمح لك بالتعويض, وكان بإمكانك البقاء في بيتك", وهذا المعنى هو ارتداد حتى على الثورة نفسها. وأما الإصلاح المؤسسي, وذلك بإنشاء قوانين عادلة ومؤسسات ديمقراطية وأيضا تغيير كل رموز الفساد الذين ساهموا في تكريس الدكتاتورية وإلحاق الظلم بالمجتمع, وهم لا يزالون الى حد الآن في مواقعهم, وذلك بالإقالة او بتحييدهم عن رئاسة المؤسسات, فقد اصبح النقطة المثيرة في تجربة تونس. فتغيير مسئول ولو صغير يثير النعرات العروشية وحتى المؤسساتية التي كانت منخرطة في الفساد, ففي بعض الجهات تكفل بعض رموز منظمة شغيلة تاريخية بالدعوة الى الإضراب العام من أجل محاولة تغيير مسئول من موقعه, وقد انخرطت معها بعض الأحزاب, حيث اصبحت فكرة تغيير مسئول واحد يهدد السلم المجتمعي, وهو ما يعني بان قوى الردة لا تزال قوية بالبلاد. وماذا على الحكومة ان تفعل؟ ان تغير الفاسدون, او ان تراعي جدوى السلم المجتمعي وبذلك تحافظ قوى الفساد على دواليب الدولة. وأما في ما يخص التأسيس للذاكرة الجماعية, فيكفي ان نقول بان المعترضون على فتح ملف اليوسفيين كثر, وان الواقفون ضد فتح العديد من ملفات الفساد في حقبة "البنعلية" هم كثر ايضا, ولسبب واحد, ان اكثر الوجوه المتصدرة للأعلام والتي تطل صباحا مساء, هي ليست سوى جزء لا يتجزأ من فساد النظام السابق, وبالتالي فان سمحوا بإقامة النصب التذكارية كتعويض معنوي للضحايا وكحفاظ على الذاكرة الجماعية, فهم سيوافقون فقط دون ان تتفتح كل الملفات لتبقى الحقيقة خارج الذاكرة الوطنية. مأزق العدالة الانتقالية يتميز في كون الثورة كانت هبة جماهيرية دون رأس, فسقط الدكتاتور ونظامه, وبقت رموزه في كل المؤسسات تتصدى وتحاول البقاء خوفا من عدالة حقيقية قد تسقط حتى وجوها تجلس اليوم في المجلس التأسيسي. 21/05/2012