[في تونس ثورةٌ يُحْدِقُ بها اللّئام ويتربّص بها المجرمون د. علي الصالح مُولَى ]ما كان أمام مَن هزمتهم الثورة وشتّتت شملهم فصاروا أيتاما أو كالأيتام مِنْ عاصمٍ أخلاقيّ أو سياسيّ يثنيهم عن سفاهة ما يأتون مِن أفعال ويردع الشرَّ المستقرّ في نفوسهم الوضيعة.. لقد سلكوا كلّ سبيل فيها تعطيل لأحلام الثورة وإرباك لسير عمل المؤسّسات الشرعيّة: أحرقوا الأخضر واليابس من إدارات ومعامل وسيّارات ومتاجر، انتشروا عصاباتٍ وقطّاعَ طرق، سالت أيديهم أموالا سُحْتًا يشترون بها ضِعَافَ النفوس ويؤجّجون بها الفتَن، اصطنعوا سوقا للمقايضة والمضاربة سَحْلا للوطن. ودخلتْ على خطّ الساقطين من النظام البائد طوائفُ من منظّمات وهيآت وأحزاب تعقد الأحلاف في مشهد خزي وعار. فكَمْ من لسان توهّمنا سابقا أنّه لسانُ صدق في معارضته لبن علي وجماعته نستمع إليه الآن بوقا رخيصا في فَمِ العصابات. وكمْ مِنْ مسؤول مَهَر في إسناد نظام بن علي توقّعنا أنّه يتمنّى لو تنخسف به الأرض حياءً من الثورة وخجلا من نظافة رجالها وجدناه في التلفزات والجرائد والإذاعات من مأدبة إعلاميّة إلى أخرى. وكَمْ مِنْ سفيه من سفهاء السياسة أعطَى سنينَ من عمره الضائع لخدمة الاستبداد والشهادةِ لصالحه في كلّ محفل وإنْ صمْتا نراهم اليوم يتسكّعون في المؤتمرات والمنتديات وكأنْ لا شيء تغيّر. وأمّا قصّة الاتّحاد فقصّةٌ ولا قصّةَ ألف ليلى وليلى.. اسْتَوْطنتْه جماعاتٌ لم نكن نراها والظلمُ مُطْبِقٌ تمارس الحدّ الأدنى من الدفاع عن منظوريها.. كان التفويت في ممتلكات الشعب عملا وطنيّا، وكان تخريب الاقتصاد بمافيات الإجرام أمرا لا يجلب للاتّحاديّين غمّا، وكان تحوّزهم لمَنَابَات عقاريّة في أماكن لا يقدر على سداد رسومها (وليس أثمانها) إلاّ المشبوهين يمرّ من تحت الطاولات. ولمّا انقلبت الطاولات بمن فيها وانكشف المستور علمنا أنّ "سيادة الرئيس زين العابدين بن علي" هو أذن لهؤلاء الاتّحاديّين بتملّك تلك المقاسم؟؟؟ مقابل ماذا؟؟؟ هؤلاء وغيرهم مندوبون اليوم لوضع جداول بيداغوجيّة للإضرابات القطاعيّة والجهويّة في مزاد لا ينزل عن يوميْن.. هؤلاء وغيرهم يمارسون ثوريّتهم على نحو خاصّ جدّا: ثورة على الثورة. وجهة نضالهم الثوريّ اليوم هي صناعة الأباطيل يشوّهون بها وطنا مثخنا بعهد ثقيل من الظلم والاستبداد.. يحترفون تسويد صورته في مرايا العالم ويخوّفون الضامئين إليه من أبنائه المهاجرين ومن السيّاح الراغبين في سحره وجماله.. يقدّمون الوطن وكأنّه في محرقة تُذكّرنا ببلدانٍ إفريقيّة لم يبق منها إلاّ حطامُ دولٍ.. نراهم تغمرهم سعادةُ الحَمقى وهم يبيعون الكذب تخويفا من مسار الثورة وتيئيسا من غدٍ لن يكون في عقولهم البائسة أفضلَ من أمس نظام بن علي الموؤود. إنّ في وطن الثورة اليوم أمورا خطيرة: . وجوها لا تخرج من مستنقع إعلاميّ إلاّ لتستحمّ في مستنقع إعلاميّ آخَر تحسب نفسها عقلا جبّارا يفهم مغالق الكون ويملك مفاتيح الأرض والسماء.. يسوؤها وينوؤها أنْ ترى استقرارا يذهب فيه الناس إلى أعمالهم مطمئنّين وتنشط فيه الحياة الاقتصاديّة وتتعافى فيه العلاقات الاجتماعيّة. . أفواها مَجَجْنا امتلاءها بشعارات التطهير، فإذا شرعت الحكومة فيه فأعفتْ مَن تأكّد لديها فسادُه في القضاء والديوانة... لم يكفها أنْ تبتلع ألسنتها.. انبرت تعارض التطهير وتلتمس كلّ وسيلة ليبقى الحال كما هو. . عملا لا يهدأ من أجل دفع الناس إلى الاحتراب مستغلّين اللحية والقفطان السلفيّيْن. . أصواتا لا تَبَحُّ دفاعا عن الفنّ والإبداع فيه. ولكنّه دفاع يثير من حوله أكثر سؤال. فهل ثمّة من يعترض في المطلق على الإبداع؟ إنّي أشكّ. والمتديّنون سلفيّين وغيرَهم، فيما أزعم، هم مِن أشدّ الناس –نظريّا- إيمانا بالإبداع. فمِنَ أسماء الله الحسنى التي أعتقد بأنّهم يردّدونها مع كلّ حبّة مسبحة تجري بين أصابعهم "البديع" (بديع السماوات والأرض). ولكنّ الإبداع شأنه شأن كلّ ممارسة حرّة تتقيّد بالضوابط الاجتماعيّة والأخلاقيّة والدينيّة وما استقرّ في الضمير الجمعيّ للناس. أليست الحرّية مسؤوليّة؟ إنّ لكلّ أمّة خزّانا من القيم. وبقطع النظر عن معقوليّته، نقول إنّه به يتحدّد وجودها حين تتهاوى كلّ حصون الدفاع. وأحرى بالمبدع إن كان مبدعا حقّا أنْ يحميَ ذاك الخزّان لأنّه القاعُ الأبدي للوجود. مساحات الإبداع كثيرة. والفنّان المبدع الحقّ مناضل.. فأروني مِن ريشة هؤلاء الذين يبدعون اليوم في قاعة العبدليّة وإنْ كسرا (بالمعنى الرياضيّ) لوحةً مناضلة حين كان النضال فوق مراتب الشرف كلّها. البطولة خارج سياقها مَرَض. والإبداع المستفزّ لمعنى من معاني الوجود مرض. تماما كالتحريض المدروس من عصابات الفتنة لممارسة العنف ردّا عليه. أنا لا أدافع عن السلفيّة أيّا كان منحاها. إنّي من حيث المبدأ عَلمانيّ عقلانيّ. ولكنّ عَلمانيّتي وعقلانيّني تمنعان عليّ أنْ أكون في صفّ المُلبّسين المتاجرين بشعاراتٍ أَجزم بأنّهم لا يفقهون منها شيئا: الحداثة، الديمقراطيّة، المواطنة، التقدّم، المدنيّة... إنّ مَن تربّى في عشّ بن علي وليلاه وكان فرخا من فراخه: رجلَ أعمال أو فنانا مبدعا أو مثقّفا مفوّها أو أكاديميّا مرهوب الجانب.. لن يكونوا بأيّة حال من الأحوال مرْجِعا في هذا الزمن.. الثورة لا تستعين بالساقطين لتبنيَ نفسها. هؤلاء الذين قيّضوا أنفاسهم للعبث بالثورة والترويج لفشل مؤسّساتها والثناء جهرا على زمن بن علي ليسوا قطعا من طينة هذا الوطن الجديد.. طينتهم من أرض الملح لا تنتج إلاّ قحطا ولا تعطي إلاّ هلاكا.. هؤلاء لو بحثتَ لهم عن ألف عذر وعذر ما وجدتَ. وللسلطة التنفيذيّة كلمة: الثورة كما نعرف تحميها قرارات ثوريّة. فإنْ كنتم في قرارة أنفسكم موقنين أنّ الذي حدث في تونس ثورة وأنّكم في المواقع التنفيذيّة التي أنتم فيها فبفضل تلك الثورةّ. فالثورة اليوم.. اللّئام يُحْدقون بها من كلّ جانب. ومبتدأ الشيء ومنتهاه قرارات ثوريّة في حجم الثورة. أمّا إنْ كنتم –وما أظنّكم وأنا أعرفكم- ترون غير ذلك.. جاءت بكم إلى الوطن من مهاجركم وسجونكم وعذاباتكم فَلْتَةٌ من فلتات الدهر السائبة.. فالويل للوطن منكم ومنهم. د. علي الصالح مُولَى* * أستاذ محاضر بالجامعة التونسيّة