أصبحت كلمة «بوليس سياسي» متداولة بقوة بعد الثورة، وشعارا يرفعه المطالبون بكشف المتعاونين مع اجهزة الأمن، وحتى أرشيف ادارات الأمن السياسي الداخلية التزمت الصمت والحكمة في التعامل مع موضوع كثرت فيه المزايدات. ولكن هذا لم يمنع بعض «التسريبات» الصحيحة او المسمومة او «مناورة لمصالح شخصية او سياسية، رغم الالتزام العلني لبعض المسؤولين بعدم العبث بأمن البلاد وأعراض الناس. بعض التسريبات حرص اصحابها على اعطائها صبغة امنية واضحة، وهي تعبير واضح عن لحظة يأس لأفراد رفضوا ان يكونوا كبش فداء لنظام كامل، رغم ان عددا من زملائهم الشرفاء تحملوا كل شيء حتى السجن دون أن يخونوا قسم الولاء للدولة. آخرون اعتبروا انفسهم محظوظين بامتلاكهم «مغارة علي بابا»، يساومون ويقايضون بما لديهم من معلومات، وبخبرتهم في الفبركة والتشويه والحرب النفسية، للحصول على موقع جديد، او حماية من المساءلة من الجرائم التي ارتكبوها ومازالت اثارها وجراحها حية لم تندمل في اذهان واجساد من تعرضوا للقمع او اجبروا اناثا وذكورا على «التعامل» الطوعي او القسري مع الاجهزة او قادتها. الموضوع في جوهره استخفاف بالدولة وتكرار لتجربة النظام السابق في التعامل بالممارسات والاساليب القذرة مع المخالفين لترويضهم بأسلوب «الملفات» وان يتصور أمني او سياسي او اعلامي او رجل اعمال.. بأنه سيغنم من لعب هذه الورقة «الرخيصة» فهو واهم أو مضلل. فتح أرشيف البوليس السياسي ليس فقط كشف أسماء المتعاونين، أو تلفيق تهمة التعاون لهذا أو ذلك وهي لعبة برعت فيها أجهزة بن علي في تصفية الخصوم الشرفاء. بل فتح كل الملفات بما فيها المعلومات التي جمعت ووثقت لمعرفة وتحليل الاساليب التي اعتمدها النظام، البائد في الحصول على المعلومات بشكل يفوق المتوقع بل الخيال، بالتجسس على المعارضين في الداخل، وتهريب «عملاء» من تونس وزرعهم في صفوف المعارضة في الخارج.. ولتكتمل الحقيقة يتوجب كشف المتورطين في فضائح مالية واخلاقية، قد تؤدي معرفتها الى تغيير نظرة الشعب لكثير من الرجال والنساء «المحترمين والمحترمات». ويتوجب ايضا من باب العدالة والانصاف، فتح ملف المشرفين على «البوليس السياسي» او بعضهم من الذين اصابتهم «المقاهي» أو «الشقق المغلقة» بمرض فقدان الذاكرة «الزهايمر». هؤلاء نسوا او تناسوا افعالهم القبيحة والشيطانية وما حصلوا عليه من امتيازات، مقابل، إجبار المسرحين على التعاون، وهتك اعراض الناس، وحرماتهم، وتدمير مئات الاسر، وتشريد أبنائها، وتعذيب المعارضين حتى الموت او العجز البدني والذهني. الباجي قايد السابق رئيس الحكومة السابق، وضع الامور في نصابها، حين أوضح أن اثارة موضوع البوليس السياسي لن تورط التجمعيين فحسب بل جزء من النخبة الحاكمة بكشف علاقتها بالنظام السابق بل وبأجهزة وشبكات استخباراتية اكثر تعقيدا من البوليس التونسي. بقطع النظر عن جدية هذا الاتهام او صحته، يحسب للدولة ولحكومتي محمد الغنوشي والباجي قايد السبسي الترفع عن استخدام اسلوب التشهير، وتوظيف هذه الورقة لمنع «الترويكا» من الوصول الى الحكم. وهو ما يدعوها الى الانتباه الى الفخ الذي يستدرجها بعضهم للسقوط فيه، للتشويش على النجاحات الاخيرة للحكومة ودفع معارضيها الى الاصطفاف وراء الثورة المضادة، وإظهارها امام العالم بمظهر حكومة «الابتزاز الرخيص» والرغبة في الهيمنة وخاصة على المشهد الاعلامي. الترويكا التي تصرفت الى حد الان بمنطق الدولة، ليست مستفيدة من الموضوع؟ فمن يكون المستفيد؟ الاكيد أنه واحد من اثنين، اما شخص مختل «المدارك» السياسية يحركه الجهل او الغرور، او جهة تريد إرباك أمن البلاد، والزج بها في دوامة الفتنة والفوضي، تمهيدا لخلط آخر للأوراق قد تكون كلفته أكثر فداحة من المرة السابقة. في الحالين، صمت وزارة الداخلية وعدم تنديدها بهذه الاساءة الخطيرة لأعراض الناس بل هذا التهديد الواضح لحياتهم، غير مبررين ويشجعان من يقف وراء الموضوع على مواصلة العمل على تقويض مؤسسات الدولة وهيبتها.