يحتفل الشعب التونسي هذه الأيام بالذكرى الثانية للثورة التونسية وإن أختلفت التقييمات حول مصير ومسار الثورة بين قائل يعتقد أنها سرقت من أبنائها وآخر يعتقد أنها سائرة في طريقها الصحيح فإن الأمر المؤكد والذي لا خلاف فيه أن الثورة التونسية علامة فارقة وفاصلة في التاريخ المعاصر ليس على مستوى تونس فحسب بل تتجاوزه للمحيط الإقليمي والعالمي وهذا مبعث فخر لكل التونسيين مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية وأستحضر بهذا الخصوص مقولة شهيرة للرسام التونسي الهادي التركي الذي صرح ذات يوم : إن أروع مشهد في مدينة سيدي بوسعيد هو مشهد جبل بوقرنين وأنا أقول إن أروع إنجاز للثورة التونسية هو إسقاط النظام المصري والليبي واليمني وقريبا السوري ... فالثورة التونسية لن ينساها التاريخ ولا الأجيال القادمة وستكتب أحرفها من ذهب مهما كانت مساراتها المستقبلية وكيف تنسى وهي التي أنتقلت شرارتها من تونس إلى عدة دول عربية وبلغت آفاق نيويورك و وول ستريت إن التساؤل الحارق المطروح حاليا هو ماذا حققت الثورة بعد مرور عامين على هروب بن علي ? فالبعض يرى أننا بخير وأننا نتقدم في المسار الصحيح في حين أن البعض الآخر يرى أن الثورة فقدت بريقها وأصبحت رهينة لنفوذ قوى إقليمية ودولية وبالتالي لا بد من ثورة ثانية لتصويب إنحرافات المساروقد طغى كالعادة على النقاش المزايدات السياسية والإستعراضات الثورجية والإتهامات المتبادلة بالركوب على الثورة ومحاولة جني ثمارها وطفت على السطح مرة أخرى عبارات : من أنتم ?أين كنتم ?من أين جئتم ? إنه من نافل القول التصريح أن الحكومة الحالية إرتكبت أخطاء و إرتبكت كثيرا وثقلت عليها الملفات الساخنة وأفقدتها صوابها في بعض الأحيان ولكن ذلك لا يبرؤ أبدا ذمة المعارضة السياسية التي أحترفت الصراخ والبكائيات وأمتهنت المناكفات والمشاحنات والمزايدات وبين ذلك وذلك بقي المواطن التونسي البسيط ضائعا منهكا مشدوها وكأنه يتفرج على مقابلة في رياضة تنس الطاولة بين الفرقاء السياسيين حتى أن عيناه إحولت وزاغت وعجزت عن متابعة الضربات الموجهة من جهة والضربات المرتدة من جهة أخرى فأكثر سؤال يطرح بشدة في كل المنابر الاعلامية والاجتماعات السياسية يتعلق بالتنمية والتشغيل فأين توجه أذنك لا تسمع إلا عبارات أين التنمية أين التشغيل أين الإنجازات سمعت هذا التساؤل مئات المرات بل آلاف المرات حتي خيل لي أن المتساءل عنه طفل صغير أضاعه أبواه في خضم الزحام فقرر نشر إعلان ضياع في نشرات الأخبار والجرائد يطلبان فيها البحث عن الشخص المفقود والله لا يضيع أجر المحسنين وإلى حد كتابة هذه السطور مازال البحث جاريا للعثور على الولد الضائع المفقود وسط الزحام ... لكني ألاحظ أن أغلب الذين يتحدثون عن التنمية والتشغيل يشكون من جهالة معرفية بارزة وأمية ثقافية ظاهرة يندى لها الجبين لأنهم لا يتحدثون عن التنمية الحقيقية بل عن خيالات وأوهام من وحي مرض العمى الايديولوجي والسياسي الذي تشكو منهم أغلب التيارات السياسية إن الذي يتحدث عن التنمية والتشغيل في الصباح والمساء ثم نجده يدعم ويحرض على الإعتصام والإضراب الفوضوي ويسانده بقوة هو شخص لا علاقة له لا بالتنمية ولا بالتشغيل لا من قريب ولا من بعيد ....إن الذي يساند الطلبات العشوائية للزيادادت في الأجور للموظفين والعمال ويدعم الاحتجاجات الانتهازية المطالبة بذلك على حساب تشغيل العاطلين عن العمل وعلى حساب إقتصاد يتأرجح بين الركود والكساد هو إنسان غير مؤهل للحديث عن أهداف الثورة ومكتسباتها .... إن كل الزيادات في الأجور التي تم إعتمادها منذ حكومة السيبسي إلى الآن هي زيادات باطلة بمنطق الثورة الحقيقية وتساهم في تقوية الثورة المضادة بما أن هذه الزيادات في الأجور لا تتزامن مع إرتفاع في الانتاج مما يزيد في إنهاك الإقتصاد الذي هو بدوره يترنح ومؤهل للسقوط وإن غلاء الأسعار وإرتفاع كلفة المعيشة الذي نشهده هو نتيجة منطقية لسياسات الأجور العشوائية والغير حكيمة والغير عقلانية وأن هذا الوضع والتمشي سيزيد من حدة التأزم في السنوات القادمة وستأتيكم الأنباء بصدق قولي فالأسعار الحالية المشتكى منها ستعتبر مقبولة و رخيصة إذا تم مقارنتها بالغلاء الآتي على مهل في السنوات القادمة وهذا ليس من باب التثبيط و التخويف بل من باب الفهم والإستشراف الاقتصادي فمن أبجديات علم الاقتصاد أن الأجور الغير مبررة والتي لا تتزامن مع إرتفاع في الانتاج تزيد رأسا من حدة التضخم وبالتالي من إرتفاع الأسعار فالموظف البسيط ذي سيفرح اليوم بزيادة مائة دينار في أجره الشهري سيحزن وسيتبرم غدا لأن ذلك من شأنه أن يكلفه زيادة في المعيشة بضعف ما تحصل عليه من زيادة في الأجر وبذلك ندخل في دوامة تضخمية لا مخرج منها وتزيد من درجة الاحتقان الاجتماعي والسياسي.....ألم أقل لكم أن الزيادات في الأجور المتبعة منذ حكومة السيبسي إلى الآن من أقوى عوامل نجاح الثورة المضادة.... أما عن عصابات تهريب السلع والبضائع فحدث ولا حرج ففي حين كان (محسن مرزوق السياسي) يتنقل من إذاعة إلى إذاعة ومن تلفزة الى تلفزة للتعريف بالمجلس التأسيسي الموازي كان (محسن مرزوق الاقتصادي) بصدد تشكيل وهيكلة الإقتصاد الموازي في جنح الظلام و بعيدا عن ضوضاء الإعلام وهذه من الطامات الكبرى التي أنهكت ومازالت تنهك إقتصاد البلاد وتوجهه نحو الخراب لا قدر الله على المواطن التونسي أن يفهم أن حكومة الترويكا وحكومة ما بعد الترويكا .. وحكومة ما بعد بعد الترويكا.. لن تكون قادرة على تحقيق أهداف الثورة في التنمية والتشغيل في ظل جهل النخب السياسية المتصدرة للمشهد و في ظل حالات الأمية الإقتصادية لوسائل الإعلام فقد أبتعدنا كثيرا عن الأهداف الحقيقية وأصبحنا نحارب طواحين الهواء على طريقة دونكيشوت المثيرة للسخرية ... فلا تنمية حقيقية ولا تشغيل ولا هم يحزنون مادمنا نستهلك أكثر مما ننتج ثم نهرع مسرعين للتسول لدى المنظمات والبنوك المالية العالمية وفي إنتظار أن نستفيق من الغفوة ونقوم من السبات ونضع حدا للمزايدات في مسائل حساسة ومصيرية ونبتعد عن الصراخ الكاذب والعنتريات الفارغة أقول لكم كل عام والثورة التونسية بخير.. بقلم الأستاذ عادل السمعلي كاتب تونسي ومحلل إقتصادي