لقد كنت في زيّارة في المدّة الأخيرة لابنتي المقيمة بكندا، وبالتحديد في مدينة "مونقتون"، وهي واحدة من المقاطعات الإثنى عشرة التي تتكوّن منها دولة كندا، وهي تقع في الشّمال على الحدود الأمريكية، وتعدُّ ما يقارب سبعين ألف ساكن، وتمسح مساحتها الجملية142 كم مربع، وتبعد على مدينة "منتريال" ما يقارب سبع مائة وخمسة عشر كم (715 كم)، والرّحلة اليها في الطائرة ذهابا من هذه مدينة "منتريال" تدوم ما يقارب السّاعة، وهي منطقة سيّاحية من أجمل المناطق "بكندا" تمتاز بشواطئها البحرية النّظيفة والهادئة، وهي منطقة فلاحيّة بالأساس، اشتهرت بشجرة "الإديرابل" وهي شجرة تنتج مادة عَسْلِيَّة تُقْتَطَعُ في فصل الربيع، وهي تستعمل في الأنواع الكثيرة من الحلويّات الكنديّة، وتمتاز هذه المقاطعة الفلاحيّة كذلك بكثرة أوديّتها، وبحيراتها المائيّة، وبجمال محميّاتها وغاباتها، التي تلتحف بأشجارها المتنوّعة في أصولها، وألوانها، وتشدّ الناظرين من الزائرين برونقها الأنيق، وجمالها المبْهر البديع ، وقد اهتمّت الدوائر البلديّة المسئولة في هذه المدينة بهذه المحميّات أيّما إهتمام، من حيث النّظافة، وتوفيرالمرافق الضّرورية، وكلّ ما يحتاجه الزائر من أسباب الرّاحة والجمام، فأي محميّة تزورها تجد فيها المراحيض المعدّة للجنسين كلّ على حدة، ومجهّزة بالورق الصِحِّيّ، والصّابون السّائل المعطّر المعدّ للتّنظيف، والخيّم المنتصبة والاستراحات المجانية المصنوعة من الخشب التي تقيك من الحرّ صيفا، و من البرد والمطر خريفا، وقد زرنا الكثير من هذه المحميّات الطبيعية، وأعجبت بها أيّما إعجاب، لما توفّره من راحة للزّائرين والمصطافين، وهذا ليس بغريب على هذا البلد ولا مستبعد عن عاداته وتقاليده، فالمحافظة على البيئة عند أهله من صميم ثقافتهم، وتحسين المناطق الخضراء هي سيّاسة من سيّاسات حكوماتهم المتعاقبة، وتشاركها في الاعتناء بها منظّمات المجتمع المدني التي تنشط في هذا المجال، كما توفّر البلديّات لمتساكنيها فضاءات ترفيهيّة أخرى كثيرة، فكثير من الحدائق العمومية تنتشر في جلّ الأماكن السّكنية أعدّت لهذا الغرض، وهي ذات بهجة وجمال، تقصدها الأسر في وقت فراغها، وأيّام عطلها للتّرويح عن النّفس، وهي حدائق لا كحدائقنا مجهّزة بأحدث الألعاب للأطفال الصّغار والكبار، وتحتضن العديد من الملاعب للكثير من الالعاب والإختصاصات، قد تقضّي فيها السّاعات ولاينتابك القلق ولا الملل، ولا تسمع فيها حسيسا ، ولا ضجيجا، ولا تتعرّض فيها لأيّ مضايقات من أيّ الأنواع، ولا من أيّ أحد، فكلّ فرد هناك منشغل بخاصة نفسه عن غيره، ففي أي مكان مشيت أو سرت في هذه المقاطعة تشعر بالأمن والأمان، فتراب تلك المقاطعة كلّه آمن، فالأمن والأمان عندهم حقيقة وواقعا، لا مجرّد أحلام ورديّة، أو أغاني عاطفية مناسباتية، أومجرّد أمنيات، كما عندنا نتغنّى بها لمجرّد الغناء، أو شعارات نرفعها لنتباهى بها ونفخر في الأعياد والمناسبات، فالمرأة عندهم تخرج لعملها ليلا ولا تتعرض لأيّة مضايقات أو أذي من أي كان، لذلك جرائم السّرقة والاغتصاب والسّطو حسب الإحصائيات الرسمية عندهم تكاد تكون شبه منعدمة، وتشعر وأنت تسير في الطريق العام وأيّ طريق من طرقها الواسعة بأنّ المواطنين يعيشون في اطمئنان متبادل، رغم اختلاف أجناسهم ولغاتهم وأديانهم ونحلهم، فالجامع بينهم هو احترام القانون الذي يحكمهم في هذا البلد الذي يجمعهم، ويبادلك الصّغير قبل الكبير، والمرأة العجوز والرجل العجوز بالتحيّة في جميع الأوقات والأحوال، والبسمة تعلو محيّاهم، وهذه من الاخلاق الحميدة والحسنة التي دعا اليها ديننا الاسلامي و رغّب ألم يقل رسولنا الكريم : " وتبسّمك في وجه أخيك صدقة " فبمثل هذه الأخلاق تفوّقوا علينا، فاحترام القانون ووقت العمل واحترام النظام من شيمهم وأخلاقهم يتربون عليها من الصّغر في الأسرة وريّاض الأطفال و مدارسهم الابتدائية، فتصبح بذلك من ممارساتهم العمليّة اليوميّة، أذكر في هذا المقام حين دخلت صحبة إبنتي ونسيبي إلى فضاء تجاريّ كبير، لشراء بعض الحاجيّات، وكنت مع نسيبي في الصفّ أمام القابضة، ننتظر دورنا لاستخلاص البضائع التي اقتنيناها، وكان في الصفّ عشرة أنفار، فحلّت قابضة أخرى لتباشر عملها بالقباضة المجاورة، فتقدّم الرّجل السّادس من حيث الترتيب في الصف، لينتظم في الصفّ أمامها، وجاء بعده الرجل السابع في الترتيب ليأخذ مكانه في الصف وجاء بعده الثامن والتاسع وأخيرا العاشر بكل تؤدة واحترام، فسألت نسيبي وهو من أصل جزائري، أهكذا هم دوما في النّظام أم هذا اليوم استثناه ؟ فأجابني : هكذا تربّوا من الصغر على احترام النّظام، وقال لي ريّاض الأطفال عندنا لا يتركون الأطفال جلّ الوقت في الأقسام، بل يخرجونهم الى الفضاءات العامّة ويعلّمونهم آداب التمدّن عمليّا حتّى تصيرعندهم هذه الآداب ملكة وسجيّة، وحقّ المساءلة والشفافية والمساواة أمام القانون، هي قيّم يؤمنون بها، ويطبّقونها في حياتهم العملية واليومية، ولا يرضون عنها بديلا، فكلّ فرد مهما علا شأنه أوصغر، إن أخطأ في حقّ الآخرين يعرّض نفسه للمساءلة والمحاسبة، ويقف أمام القضاء ككلّ الناس، والصّحافة عندهم تقوم بدور فاعل ومسئول في الكشف عن تجاوزات الوزراء، وكبار المسئولين، ولا تستثني من ذلك أحدًا، وقد تساءلت بيني وبين نفسي لماذا تقدموا هم وتخلفنا نحن المسلمين؟ وهو نفس السؤال الذي طرحه منذ ما يزيد عن نصف قرن روّاد النهضة، وغيرهم من علماء المهجر، من أمثال الشيخ محمد عبده والامير شكيب أرسلان والشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ عبدالعزيز الثعالبي وطه حسين وغيرهم كثير، وقد كانت الاجابة عندهم متجانسة في بعض الأحيان، وفي كثير من الأحيان مختلفة، فطه حسين ومن لفّ لفّه رأوا أنّ تقدّم الشّرق مرهون بأن نأخذ من الغرب حلوه ومرّه، وهذا النّهج أغرى الكثير من قادة دول الإستقلال، فساروا عليه، ولم تجن منه بلدانهم طيلة نصف قرن إلاّ الفشل والخسران ، بينما رأى الفريق الآخر أنّ تقدم الغرب جاء نتيجة إصلاح لنظم الحكم، وتربيّة للمجتمع على ضوء قيّم الحقّ والعدل التي اهتدى اليها الغرب وأنزلوها عندهم المنزلة الحسنة، وهي قيّم عالمية وكونية مشتركة جاءت بها تعاليم الاسلام منذ قرون خالية، وطبّقتها الدول الاسلامية في عهود ازدهارها، وسادت بها بين الأمم، وكانت بها خير أمّة أخرجت للناس، وإن اختزال الشريعة في مجرد الحدود، واستبعاد المقاصد الكبرى للإسلام من الشريعة، فوّت على الأمّة الإستفادة من تجارب الغرب في مجالات النظم الادارية والمعرفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولعلّ أكبر معبّر عن الخيار المستنير للأمة قول الشيخ محمد عبده : " ذهبت الى الغرب فوجدت إسلاما بدون مسلمين، وعدت الى الشرق فوجدت مسلمين بدون اسلام"