خرجت إلى صلاة الجمعة وبي شيء من فرح خفيّ ، وأمل في أن أسترجع شيئا من الرّوحانيّات دون أن أضطرّ إلى أن أغلق عقلي على عتبة المسجد مع الهاتف الخلويّ ... وجدت نفسي في جمع من المصلّين أمام إمامٍ ، تبدو عليه بعض المبالغة في مظاهر التّديّن ، لباسا والتحاءً ، فقلت : جعلنا الله ممّن يتوسّمون الخير في عباده ، ولا يأخذون بالمظاهر ... ثمّ بدأت الخطبة ، فانطلق الإمام بصوت هادئ رصين موقَّعٍ ، ما لبث أن بدأت لهجته تتصاعد شيئا فشيئا وتحتدّ وتدوّي في أرجاء المسجد كالرّعد ، وهو يلوّح بيديه ويتوعّد الأفّاقين والمنافقين بما يستحقّون من الله ... وتحوّلت الخطبة إلى صراخ وعربدة وأنا أحاول جاهدا أن أحتفظ في داخلي بالقليل القليل من الخشوع بين يدي الله ، كان الإمام يتحدّث عن الغرباء في تونس ( على معنى الحديث الشّريف ..) وواضح أنّه كان يقصد أبناء التّيّار السّلفيّ تخصيصا ... بدأ يتحدّث عنهم كما لو كان يتحدّث عن المسلمين في بورما وما يتعرّضون له من إبادة على الهويّة ، تحدّث عمّا يتعرّضون له من التّقتيل والتّنكيل والمعتقلات والمحتشدات والمطاردة لا لذنب إلاّ أن يقولوا ربّنا الله .. وراح يطلق النّار عشوائيّا فيصيب العلمانيّين ( وهو بالمناسبة يتعامل مع مصطلح العلمانيّة بنفس معنى الكفر ) ويصيب المتديّنين على غير مذهبه على حدّ السّواء .. ثمّ مرّ إلى الحديث عن مأساة الملاك المغتصبة في الرّوضة ، فأوجع القلوب والعقول معا ، وهو يحدّثنا عمّن اغتصب أخته فأنجبت ثمّ اغتصب عمّته أربع مرّات ، وظلّ هاربا ولمّا قبض عليه حكم بالسّجن لمدّة سنتين ليخرج منه بعد ذلك ويواصل اغتصاب من بقي من العائلة ... ثمّ يحمّل المسؤوليّة للعلمانيّين الّذين يرفضون تحجيب البنات وللحكومة الّتي لم تطبّق شرع الله ، ويتوعّد بتطبيق الشّريعة ( كما يفهمها .. يعني الحدود ) في كلّ أركان الأرض ، ثمّ يحملها بعد ذلك إلى النّجوم ( بنفس أسلوب هتلر ..) كلّ ذلك والصّوت يرتدّ ويحتدُّ و يخفت حتّى يصبح همسا ثمّ يصرخ مجلجلا دفعة واحدة ، بلكنة تريد أن تكون شرقيّة ، تأسّيًا بخطباء الشّرق من الشّيوخ ، في مشهديّة مسرحيّة غريبة لا تترك مجالا لأيّ خشوع أو تنعُّم من روحِ الله في يوم الجمعة .. لا أحتاج لأن أصف كيف مرّت عليّ الخطبتان ، وخرجت حزينا خائبا ، خيبة من تكسّر في داخله شيء عظيم كان يحمله قبل الدّخول ... لقد حرمني ذلك الرّجل من نقاوة الصّلاة وحرارتها وطراوتها ، واغتصب عقولنا جميعا كما اغتصبت ابنة السّنوات الثّلاث ، وروّع المارّة خارج المسجد ، ونفّرهم من السّير في طريق الله وهم آمنون راضون مرضيّون .. خرجت وأنا أحاول أن أسكت آلاف الأوجاع في رأسي : إذا كنت أنا ، من يفترض أنّني أقف معه على نفس الأرضيّة ، وبإمكاني أن أتواصل معه من داخل منظومة التّفكير الدّينيّ ..إذا كنت أنا أعجز عن ذلك ، فكيف يمكن أن ألوم غيري عن عجزهم عن التّواصل معه ؟؟ مثل هذا الرّجل ، لم يتعلّم كيف يتواضع لله حتّى وهو في بيته وبين يديه ، كيف يهمس له وهو يرجوه ويدعوه ويبتهل إليه .. كيف يخاطب النّاس بلغة المحبّة ويظلّلهم بظلال القرآن ويعطّرهم بمسك الحديث .. كيف يفرّق بين ما هو دينيّ سياسيّ ، وما هو سياسويّ فجّ وقح .. كيف يفكّر بغير غرائزه البقائيّة وسوء ظنّه بكلّ من حوله ... حزنت كثيرا وأنا أرى مثل هؤلاء يفعلون في دين الله ما لا يفعله كلّ مناهضيه ولو اجتمعوا ، وتساءلت : متى ينتهي مثل هذا الانتصاب الفوضويّ في بعض المساجد؟؟